arablog.org

فاضل ﮔـنوش

(1)

من الفقر إلى الفقر.

(2)

عرفت أبو عباس أول مرة صغيرا، بشكل أدق، رأيته صغيرا، ولم اعرفه إلا بعد سنوات، واظبت على رؤيته كل يوم تقريبا، دون أن اعرف اسمه، ولكنني اعرف عمله، كانت صورته الأولى التي لمّا تبارح مخيلتي تطوف في الذاكرة منذ تلك السنين البعيدة، يلبس قفاز التدليك الأسود الخشن، منحنيا على رجل مستلق في قاعة الحمام العمومي في حمام جاويد، أو كما يعرف باسم: حمام كلة حسين، يفركه بساعديه الصلبين فركا، كانت ذراعاه تصعدان وتنزلان، كنت اشاهد حركتهما عبر البخار المتكاثف، يرتفعان، يهبطان، يشقان البخار، يكونان دائرة من الفراغ حوله، وبين حين وآخر، يتباعد البخار عن وجهه، فيلوح لي، اسمرا، محمر الوجه، انتفخت اوردته الدموية لكثرة ما تنشق من البخار، عيناه استحالتا إلى كرة من الدم في هذا الاتون المتكاثف، يطلق نكتة عابرة، يضحك المستحمون، ويطبق عليه الصمت.

(3)

ارتبطت حياته بالحمام، مهنته، باب معاشه، وظيفته منح الابدان الراحة المنشودة، والنظافة المبتغاة، سمعته مرة يشكو أبان الحصار من ضيم دهره، ومن تنكر أحد الاصدقاء له، لا اذكر القضية، لكنه تحدث وقتها ان الله رزقه واحدة من بناته ـ اللواتي صرن ثمانية، ثمانية بنات يا الله في هذا البلد الذي يذل الولد قبل البنت ـ كان منتشيا بمقدمها، ويردد أن الله عوّضه عن الخذلان بها.

(4)

ببساطة متكلفة، كيف لسمكة أن تعيش خارج الماء؟

(5)

كان حاضر النكتة، يقتنص التشبيه المضحك اقتناصا، لعل ما لا استطيع نسيانه هو تشبيه أطلقه في التسعينات، حينما كان الدولار يرتفع وينخفض بسرعة جنونية تطير معها القلوب، وتخرب البيوت، وفق مزاج صدام، وقتها، كان هناك شيخ، رجل دين، يعرج بطريقة قاسية، يرتفع نصف بدنه بأعلى ما يستطيع، وينخفض بأدنى ما يمكنه، كأنه منشار صاعد نازل، أو كما شبهه أبو عباس، قال: هذا الشيخ مثل الدولار، يصعد وينزل…

(6)

هدم الحمام، وقبل هدمه ماتت مهنة المدلكـﭽـي مع مات عقب طوفانات 2003، أين يذهب أبو عباس؟ اتخذ من ظهر الحمام، قرب المسجد المفرد من بناية الحمام، مسجد جاويد، الحمام المهدوم، اتخذ من قرب المسجد محلا لبيع ما تيسر للعابرين من عصائر وما شابه، فقير على قارعة الحظ العاثر، كنت أمر به، فأجد مجموعة من الرجال الذين كنت أكبر وهم أمام ناظري، من أهل طرفي وأصدقاء أبي، يرابطون عنده، بعضهم من أترابه الفقراء، يتحلقون عند الفقير، حاضر النكتة، دقيق الملاحظة، الذي حوّل الرصيف إلى مقهى يأنس إليه أحبته.

(7)

كيف لك أن ترثي فقيرا؟ عاش فقيرا، عابر سبيل، ومات فقيرا، بأقسى طرق الموت وأكثرها إيلاما، تاركاً خلفه أفواه غرثى، وعيون ثكلى، وحسرة تخيّم على البيت وتخضه خضا، ربما لم يشكل وجوده في حياة الكثيرين محطة تستوجب الوقوف عندها، لكنه مثّل عندي حياة كل عراقي، من الفقر للقبر، وبينهما الكثير من الوجع، والضحك المداف بالأسى، وجه من الوجوه التي صنعت ذاكرتي عن هذه المدينة، المدينة التي تركتها، ولم ارتح مذ تركتها.

2/ 2/ 2020

 

حرب تلد أخرى… عدم الاستقرار السياسي والحروب العراقية المستمرة

 

علي عبد الهادي المعموري

لا يكاد المتتبع لتاريخ العراق السياسي الحديث منذ العام 1921 أن يضع يده على عقد ونصف من الاستقرار السياسي أو الهدوء من دون حرب داخلية أو خارجية يخوضها البلد، او دون مشاكل داخلية مدمرة، وفي الواقع، لو أردنا العودة إلى أزمان أبعد من تاريخ قيام الدولة الحديثة في العراق فلن نجد فرقا كبيرا، في كل الحقب، ولكننا في هذا المقال سوف نركز على الاضطرابات التي عاصرتها الدولة العراقية الحديثة، أو بعض منها بشكل أدق.

منذ البداية، كانت ولادة الدولة العراقية عسيرة، سُفك في سبيلها دم كثير، دفعته عشائر الفرات الأوسط ثمنا لوقوفها أول الأمر مع الدولة العثمانية ـ التي لم تنصف الفرات يوما ـ ثم لتحملهم أعباء القيام بثورة العشرين، الثورة التي أجبرت بريطانيا على أن تغير قرارها بوضع العراق تحت انتداب وإدارة بريطانية مباشرة، وترضخ لاختيار حكم وطني وضعت على رأسه فيصل بن الحسين، الذي بايعه شيوخ الفرات الأوسط ورجال الدين في النجف ملكا على العراق.

على الرغم من ذلك، لم تشهد سنوات حكم فيصل الأول أي استقرار أو هدوء سياسي، وكانت الصدامات المسلحة تنشب بين حين وآخر، بعمل بريطاني مرة لتقييد فيصل، أو بانتفاضة عشائرية تقف خلفها مطالب بعضها سياسي يستجيب لمطالب رجال الدين في النجف، في ظل امتلاك العشائر لسلاح يفوق ما تملكه الدولة بذاتها، وبعضها اقتصادي مصلحي بحت من قبل بعض كبار الملاكين والشيوخ، وبعضها قومي عرقي مثل انتفاضات الكرد ابتداءًا بحركة الشيخ محمود الحفيد البرزنجي الذي قاد حراكا مسلحا ضد الحكومة في نيسان/ابريل 1924.

وفي الوقت الذي كان فيصل يحاول لملمة شتات العشائر، والتوفيق بين المصالح الوطنية والضغوط البريطانية، وينفي في سبيل نفاذ أمره الكثير من الشيوخ ورجال الدين الذين بايعوه في الحجاز ملكا، ويحاول طمأنة العراقيين لسياسته، قامت القبائل النجدية بالإغارة على جنوب العراق في كانون الاول/ ديسمبر 1924، ليدخل العراق في مناوشات متعددة استطاع فيصل فيها أن يحصل على إجماع لمساندته في محاربة القبائل النجدية المدفوعة من ابن سعود.

وفي أواخر أيام الملك فيصل الأول، نشبت مشكلة قوات الليفي وعناصرها من الاثورييين، القبائل المسيحية التي كانت تستوطن سلسلة جبال حكاري، وجلبها البريطانيون مشكلين قوات الليفي من بينها، وبعد قيام الحكم الوطني، رفض الاثوريين تسليم سلاحهم للدولة، الأمر الذي قاد إلى صدام مسلح كانت نتيجته مقتل عدد كبير من الاثوريين فيما سمي بمذبحة سميل، قبيل وفاة فيصل الأول وخلال رحلته العلاجية التي توفي خلالها في ايلول/ سبتمبر 1933 ـ تشير بعض المصادر إلى أن فيصلا توفي متأثر بنبأ ما حدث دون علمه، أبان تولي بكر صدقي لقيادة الجيش العراقي ـ لتسجل نقطة دموية كبيرة في تلك الحقبة المبكرة.

شهد عهد فيصل اضطرابات عشائرية مستمرة، وصدام بين القوات الحكومية والعشائر، بعض الاضطرابات كان احتجاجا على جمع الضرائب على الأرض، وبعضها كان سياسيا بحتا، خصوصا بعد الاضطرابات التي تنامت عقب المعاهدة العراقية البريطانية في حزيران 1930 حتى وصلت إلى إضراب في العديد من المدن العراقية وفي الفرات الأوسط خصوصا.

وبعد وفاة الملك فيصل الأول، ازداد الوضع تعقيدا، وقامت انتفاضات متعددة على الحكومة، مثل انتفاضة الشيخ خوام العبد العباس الفرهود، شيخ بني زريج في منطقة الرميثة، التي كانت استجابة لما طرحه المرجع الشيعي وقتها الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء من احتجاج على ما وجده سلوكا طائفيا لدى السلطة، وعدم إشراك جميع العراقيين في الحكم، الانتفاضة التي قمعت بطريقة دموية أسقطت الكثير من الضحايا عام 1935، وفي ايار/ مايو أعلنت الأحكام العرفية في الرميثة وسوق الشيوخ، وفي أيلول/ سبتمبر تمرد عشائر المدينة في البصرة، وفي تشرين الأول/ اكتوبر تمرد الايزيديين وأعلنت الأحكام العرفية في سنجار.

في العام التالي، وفي تشرين الاول/ نوفمبر من العام 1936، وقع واحد من أهم الأحداث في العراق، والذي سيؤثر على مجمل تاريخه اللاحق، التدخل الأول للجيش في السياسة، إذ قام الفريق بكر صدقي، رئيس أركان الجيش، وبالتشاور مع الملك الشاب غازي بن فيصل، بقيادة انقلاب استهدف إسقاط حكومة ياسين الهاشمي، التي قمعت الانتفاضات الفلاحية التي ذكرناها مسبقا بطريقة قاسية، ولم يتوقف الانقلاب عند إسقاط حكومة الهاشمي وجلب حكومة جديدة نالت ثقة الملك، بل وصل إلى قتل أول وزير دفاع عراقي، الفريق جعفر العسكري، الذي خدم في الجيش العثماني واثبت شجاعة فائقة، وكان من مؤسسي الجيش العراقي بعد قيام الدولة الحديثة عام 1921.

على أي حال، لم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ لم يتلبث بكر صدقي طويلا قبل أن يقتل بدوره في آب/ اغسطس 1937، وتنتهي الحكومة الانقلابية بمسار صدامي.

ثم شهد العراق مرة أخرى حركة مسلحة عنيفة، عرفت فيما بعد بحركة مايس 1941، او حركة العقداء الأربعة، التي أسقطت بدورها حكومة نوري السعيد وجاءت بحكومة انقلابية رأسها رشيد عالي الكيلاني، وخلعت الوصي على العرش الأمير عبد الإله من منصبه، ووضعت محله الشريف شرف، لتسقط بدورها على يد البريطانيين بعد صدامات عسكرية غير متكافئة مع قوات الجيش العراقي، أطيح بعدها بالكيلاني وحكومته في أيار/ مايو، وأعيد الأمير عبد الإله إلى منصبه، وبينما هرب الكيلاني خارج العراق ولم يعد إلى العراق حتى ستينات القرن الماضي، فإن العقداء الأربعة تم إعدامهم مع بعض المدنيين الآخرين المتعاونين معهم، مثل يونس السبعاوي.

خلال الأحداث تلك كلها، كان شمال العراق ـ حيث يقطن الكرد ـ يشهد اضطرابات مستمرة، والحملة العسكرية تلو الحملة، منذ قمع حركة الشيخ محمود الحفيد تباعا إلى سنوات متأخرة، حيث خاض الكرد صدامات مسلحة مع مختلف الحكومات المركزية سواء في الحقبة الملكية أو في الحقب الجمهورية بمختلفها بما يضيق المقال عن حصره، وإذ سبق ان ذكرنا تمرد الشيخ الحفيد، نذكر بعضا من التمردات الكردية اللاحقة، ففي تشرين الأول/ اكتوبر 1943 اعلن ملا مصطفى البارزاني تمرده من بارزان بعد عودته من ايران، واستمر تمرده الى تشرين الاول/ اكتوبر من العام 1945 يهزم ويهرب الى ايران، ثم يعود ويعلن تمرده مرة أخرى في ايار/ مايو 1947، ويظل بمناوشات متفرقة الى ما بعد الانقلاب عام 1958، فيجدد الحركة المسلحة عقب سلام مع الحكومة المركزية، ويعود للحرب في ايلول/ سبتمبر 1961، وتتجدد الاشتباكات في 4 آذار/ مارس 1965 وصولا الى تحقيقه تقدما مهما في أيار/ مايو 1966 وتستمر العمليات بالتصاعد حتى  آب/ اغسطس 1967، وصولا الى شن القوات الحكومية هجوما على مناطق سيطرة البارزاني في كانون الاول/ ديسمبر 1968.

ظلت حالة القلق هذه حتى التقاء صدام حسين ـ كان نائبا لرئيس الجمهورية وقتها ـ بالبارزاني في آذار/ مارس 1970 لتبدأ سلسلة مفاوضات قادت الى اعلان بيان 11 آذار/ مارس لحل المسألة الكردية، الذي بانت بوادر تعثره بقطع المفاوضات في تشرين الأول/ اكتوبر 1972، لتنهار اتفاقية الحكم الذاتي في آذار/ مارس 1974 ويندلع القتال مرة أخرى، حتى توقيع اتفاقية الجزائر بين ايران والعراق عام 1975 التي توقف على إثرها دعم شاه ايران للاكراد، فانهارت حركة البارزاني وأعلن ايقافها وانسحابه الى ايران، ثم اندلاع حرب العصابات في المناطق الكردية الجبلية الوعرة في ايار/ مارس 1976، دون ان يفوتنا ذكر وقوع معارك تشرين الاول/ اكتوبر 1991 بين القوات العراقية والكرد في اربيل والسليمانية وانسحاب القوات العراقية منها، ثم الصدام الكردي الكردي الذي قاد مسعود البارزاني الى ان يستنجد في آب/ اغسطس ببغداد لدعمه ضد حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني.

في غضون ذلك كله، كانت المشاكل الداخلية والصدامات العنيفة مستمرة، محاولات انقلابية ناجحة واخرى فاشلة، واعتقالات، وعمليات اغتيال، وصولا إلى انقلاب صدام حسين على البكر، وتوليه منصب رئيس الجمهورية، وإعدام عدد من القيادين البعثيين عام 1979، ولم يتلبث طويلا حتى اندلعت حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران في ايلول/ سبتمبر 1980، لتستمر ثمانية اعوام، وما أن أعلن عن وقف اطلاق النار في 8/ 8/ 1988، حتى اجتاحت القوات العراقية الكويت في الثاني من آب/ اغسطس 1990، ليدخل العراق في مواجهة عسكرية مدمرة مع قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في كانون الثاني/ يناير 1991، التي قادت الى انسحاب كارثي مدمر للجيش العراقي من الكويت، وتندلع على أثره انتفاضة كبرى في آذار/ مارس ضد نظام صدام حسين خرجت خلالها 14 محافظة عراقية عن سيطرة بغداد.

ولم تتوقف تداعيات حرب الخليج الثانية على الحصار الاقتصادي المدمر، بل استمرت تفاعلاتها العسكرية، ففي ايلول/ سبتمبر 1996، أطلقت الولايات المتحدة الامريكية 44 صاروخ طراز كروز لتدمر مواقع القيادة في جنوب العراق، ثم تعود لتقود عملية ثعلب الصحراء في كانون الاول/ ديسمبر 1998 وهي اوسع عملية عسكرية تشنها الولايات المتحدة وبريطانيا منذ حرب الخليج الثانية عام 1991.

وكانت العاقبة الكبرى هي ما ترتب على توجيه الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش في 17 آذار/ مارس 2003، مهلة لصدام حسين بـ 48 ساعة للخروج من العراق قبل بدأ الحرب عقب اتهامه بتطوير اسلحة نووية، ودعم الارهاب، وفي 20 من الشهر ذاته بدأت حرب الخليج الثالثة لتعلن في نيسان/ ابريل 2003 احتلال بغداد واسقاط نظام صدام حسين.

ومنذ العام 2003، بدأت الحروب الداخلية بالتنامي، متخذة طابع طائفي، طرف تقوده الحكومة العراقية بدعم من الولايات المتحدة، وطرف تمثله تنظيمات مسلحة مختلفة، كان بعضها يركز على قتال القوات الامريكية فحسب، بينما مارس بعضها الآخر حرب طائفية معلنة، مثل تنظيم القاعدة، وراح ضحية تلك الحرب آلاف من الضحايا المدنيين الابرياء.

أخذت الامور تنفرج نسبيا بدايات العام 2009، مع استمرار الانفجارات الدموية الكبيرة دون توقف، وصولا الى كارثة انهيار الجيش العراقي في الموصل في حزيران 2014 ومدن أخرى، لتخسر الحكومة المركزية السيطرة على مساحة شاسعة من الاراضي تقارب ثلث مساحة العراق، وتدخل في حالة صدمة عسكرية لم ينقذها منها سوى اعلان المرجع الاعلى في النجف عن فتوى الجهاد الكفائي في 6/ 12/ 2014، التي طالب فيها المواطنين بالتطوع في القوات العراقية والدفاع عن وطنهم، فتتأسست بعدها فصائل عسكرية غير نظامية انضوت لاحقا في مؤسسة عرفت باسم الحشد الشعبي، ودخلت مع القوات النظامية في حرب مفتوحة مع تنظيم داعش (الدولة الاسلامية في العراق والشام)، حرب استمرت حتى اعلان التحرير عام 2016، بمشاركة واسعة من مختلف الأجهزة الامنية والعسكرية في العراق، وبدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، مكلفة العراق الكثير من الخسائر البشرية، وتخريب المدن والبنى التحتية، وظهور فواعل عسكريين جدد من الصعب ضبطهم مرة أخرى ضمن سلطان الدولة العراقية.

هنا، لنا ان نتسائل، ما هي السمة الأبرز التي هيمنت على الدولة العراقية الحديثة خلال عمرها الذي قارب القرن؟ والإجابة الوحيدة هي: الحرب، حرب مستمرة دون توقف، داخليا بين الحكومة ومناوئيها، خارجيا بين العراق وجيرانه، بين العراق وتنظيمات مسلحة عابرة للحدود، حروب اولدت مشاكل اجتماعية معقدة، وصراعات حزبية وإثنية طائفية، قادت بدورها الى أن تشعل حروبا أخرى، وتولد أزمات اكبر، وينمو على هامشها طفيليون استفادوا من اقتصاد الحرب، بالسمسرة، والرشاوى، وفرض الرأي السياسي، وغيرها من المشاكل.

الحرب، هي أم كل شيء في العراق، وعاقبة كل خلاف سياسي فيه، بسبب عدم الاتفاق على العقد الاجتماعي المؤسس للدولة، ولا ريب والحال هذه أن تستمر الحرب، ما دامت القوى السياسية العراقية الممثلة للإثنيات غير قادرة على أن تقدم من بين رجالها آباء مؤسسون يبنون الدولة، ويركزون دعائمها.

الصورة: دمار الجيش العراقي بعد الانسحاب من الكويت، طريق الموت.

د. مها عبد اللطيف الحديثي

(1)

كيف ترثي معلما؟ أو معلمة بالأحرى؟ كيف تصف مشاعرك تجاه شخص أغلق الموت عينيه، بعد أن فتح هو عينيك على الدنيا؟

(2)

في المرحلة الأولى من كلية العلوم السياسية، كان ذلك عام 2005، سألنا الطلاب الأقدم عن طبيعة كل قسم من أقسام الكلية، وبدأ احدهم بتبيان الأقسام، كانت لدينا أربعة أقسام، النظم السياسية والسياسات العامة، السياسة الدولية، الاستراتيجية، العلاقات الاقتصادية الدولية، عادة يفضل الطلاب قسمي العلاقات أو السياسة الدولية والاستراتيجية، لأسباب متعددة، أما أنا، وما أن شرح لي الزميل المذكور معنى الاجتماع السياسي الذي تتركز الدراسة حوله في قسم النظم السياسية والسياسات العامة، إلا واخترته دون تردد، دون نقاش، هذا هو شغفي في الحياة، أن افهم كيف يتصرف الانسان ككائن سياسي.

(3)

ماذا يفعل المعلم؟ حسنا، كما قال مصطفى جمال الدين يوما:

تأتيه أجساد فيصنع روحها

والطين لولاه الكثير الأوفر

(4)

في المرحلة الثانية لدراستي البكلوريوس، كانت السنوات الأكثر التهابا في بغداد، قتل مجاني، سيطرات وهمية، وكنت قد تقدمت بطلب تأجيل السنة الدراسية، ووافقت الجامعة على طلبي، ولكنني وبعد مضي أكثر من شهر ونصف على بدء الدراسة قررت إلغاء التأجيل والعودة لقاعات الدرس، فذهبت إلى الكلية بهذا الطلب، يومها، وفي ذروة ذلك الخبل الطائفي، رفض معاون العميد طلبي، وقال كلاماً مضمونه أنني اضحك على الحكومة، وحين كدت أن أيأس، ذهبتُ لها، وكانت رئيسة قسم النظم السياسية والسياسات العامة، قسمي، وأخبرتها بما قاله، سحبت نفسا من سيجارتها وقالت: مو بكيفه، طالب يريد يكمل دراسته يمنعه؟!! اللي يجي بهاي الظروف حتى يدرس متفضل اصلا، اكتب طلب، وكنت قد كتبتُ الطلب على ورقة هزيلة، فزجرتني وقالت: هي هاي ورقة؟! وناولتني ورقة بديلة كتبت بها طلب إلغاء تأجيلي، فأخذته وطارت به، وما هو إلا يوم وآخر، وإذا بها تأتي بموافقة إلغاء قرار مجلس الجامعة بتأجيلي، وتعيدني إلى الدراسة.

(5)

بعد كل تلك السنوات، لا يزال معاون العميد القديم يرفض طلب صداقتي على الفيسبوك، بينما أقف باكيا ناعيا للعظيمة التي كان أول احتكاكي بها أن لبت طلبي وهي دونه في الصلاحيات الادارية.

(6)

كانت المحطة الثانية مع بداية الفصل الدراسي الثاني، والدارسين في النهرين يعرفون أنها تعتمد نظام الفصول الدراسية، فندرس ثمانية مواد في الفصل الأول، وثمانية أخرى مختلفة عنها في الفصل الثاني، وفي الفصل الثاني، كانت محاضرة علم الاجتماع السياسي، وأستاذة المادة هي تلميذة أبو الاجتماع السياسي العربي، مؤسس قسم النظم السياسية في العراق، العلامة الدكتور صادق الأسود، وهي الأستاذة، الراحلة الكريمة.

ابتدأت اليوم الأول بفتح كتاب الدكتور الأسود (علم الاجتماع السياسي أسسه وأبعاده) ذهبت إلى الفهرس، وبدأت بتحديد المفردات التي سوف ندرسها من بين ما تضمنه هذا الكتاب الضخم، ثم انفتلت تدرس المواد محاضرة فمحاضرة، تقف بك على دقائق هذا العلم، تمنحك مفاتيحه، تفتح أبوابه المعقدة وتغوص بك وتغوص، تورد النظرية، ثم تنثني لشرح تطبيقاتها، وفي العراق خصوصا، ولا زال شرحها لتأثير الفراتين على مزاج العراق يدور في رأسي ليفتح لي الكثير من مغاليق هذا البلد وناسه، وفي غضون شرحها ذاك، تنفث دخان سيجارتها، واحدة تلو الأخرى، غاضبة من الخبل الذي يضرب بلدها، بلدها الذي تعشقه وتهيم به حبا، حتى يبلغ بها السخط أوجه، فتتوقف عن الكلام وتخرج، ثم تعود لتكمل المادة دون كلل أو وجل.

(7)

كانت حريصة، حريصة على كل شيء مثل استاذة مثالية تجد كل الطلبة أبنائها، وممتلكات الكلية ممتلكاتها، اذكر مرة أنني دخلت معها مكتبها بعد المحاضرة، أول ما دخلت، انتبهت أن المدفأة قد أحدثت حرقا في خزانة خشبية في المكتب، يبدو ان احدهم نسيها حين قطعت الكهرباء وخرج، فدخلت المنظفة دون أن تدري فأزاحتها وألصقتها بالخزانة، ليحدث ما حدث، بقيت تردد: لااااا مو خوش خبر مو خوش خبر، تأسفت كثيرا لتلف جزء سطحي من الخزانة، أشعلت سيجارة، ثم أضحكها أحد الطلبة بنكتة ما، وتهلل وجهها السمح لما قاله ابنها الطالب.

(9)

لم تكن تنادينا بغير: أبنائي.

(10)

في الماجستير، بدأت علاقة أخرى معها، مختلفة، وإن كانت بذات الانضباط، درستنا مادة المنهجية وشيء من التذكير بعلم الاجتماع السياسي، وكنتُ قد فهمت مزاجها وعرفت ما تريده، وصرت انصح طلبة المنافسة على الدراسات العليا بما يفترض أن يركزوا عليه حينما يقرأون كتاب الدكتور الأسود لأجل الامتحان التنافسي، على أي حال، كانت كما عهدتها، ممتلئة علما ومحبة بحزم، وكان السخط قد بارحها بدرجة كبيرة مع هدوء البلد، وعودة الحياة، يا الله لكم احببت أن اجلس أمامها كتلميذ استمع منها واتعلم.

(11)

دارت السنتين، وصارت عضوا في لجنة مناقشتي رسالتي، وفي تلك المناقشة، قالت لي من أول لحظة: هذه أطروحة دكتوراه وليست رسالة ماجستير، ولو بيدي لجعلتها منهجا دراسيا، وانصح كل الطلبة الجالسين في القاعة بقرائتها، وانفتلت تناقشني بمحبة وحزم، ومن بين أساتذتي الأجلاء الذين ناقشوني، كانت هي أكثر من ألححتُ بنقاشه، لسبب وحيد، كانت هي أكثر من أردت أن لا أبدو مخطئا أمامه، ألححتُ حتى قالت لي وهي تحضك بمحبة، وتنظر لي بفخر: كافي علي تعبتني، فصمتُّ.

(12)

كانت مهابة، لا يجرؤ أحد من طلبتها على الكلام بما يغضبها، بعضنا ـ طلبتها ـ نال الاستاذية، وبقي يخاف منها، يخاف بمحبة ومهابة.

(13)

حين عرفت أنني سأزور لندن، اتصلت بي وقالت إياك أن تأتي ولا أراك، واتفقنا، ولكن حظي السيئ، وقصر زيارتي منعتنا من اللقاء، فبقيت حسرة تعتصر قلبي لأنني لم أرَ وجهها السمح للمرة الأخيرة قبل أن تغادرنا إلى بارئها.

(14)

خلال سنوات عمرها، درست المئات، وأشرفت وناقشت المئات من أطاريح الدكتوراه، ورسائل الماجستير، فضلها في أعناق المئات من الطلبة الذين نهلوا العلم بين يديها، كانت أمينة على تراث أستاذها الدكتور صادق الأسود، مبدعة فيما تكتبه أو تدرسه، ولكن ما أتيه به فخرا هو آخر رسالة كتبتها لزميلي الدكتور حسن سعد، قالت له لا تنسى أن توصل سلامي لعلي المعموري والدكتور نصر العزيز، انت وعلي ونصر افتخر بكم رغم اعتزازي بالاخرين، انتم الأقرب لقلبي أبنائي الأحبة.

كانت هذه آخر كلماتها له، ولي، آخر ما كتبته: للأسف ما مكتوب نتشاوف.

اي والله دكتورة للأسف

 

 

 

العقل الشعري والعراقيين

علي عبد الهادي المعموري
حسنا، بداية لابد من أن أوضح شيئا مهما، أنا من الذين صرعهم الشعر، أنا عراقي ابن عراقي ابن عراقي، الشعر جزء من زادي ومما اتقوت به للمرور عبر هذه الحياة الملغومة آمنا، اقرضه احيانا مثل أي عراقي آخر دون أن ادعي جبروته، ولعلي أزعم بأنني من بين أكثر الناس تفهما وتقبلا لنرجسية الشعراء وتيههم وظن الكثير منهم بأنهم يمسكون حقيقة كل شيء، وفي الواقع، ومع الاقرار بنسبية الحقائق، فإنهم لا يعرفون سوى الصورة التي يريدونها عن الحقيقة، الصورة التي اصطنعها عقلهم الشعري، وتضخمت حتى ملئت ارواحهم وصيرت الكثيرين عدائيين في تسويق صورتهم عن الحقيقة، والدفاع عنها، وسلها في وجه الآخرين مثل منشار يعمل بالديزل.
لماذا يحدث هذا؟ إنه العقل الشعري، عقل بطبيعته عاطفي، حساس، يلتقط ما لا يدركه الاخرون، الخفي الذي لا ينال، ولكنه وهم في ذات الحين، العقل الشعري مندفع، متهور، اناني، تتملكه نشوة الانا الاعلى، هوس بالمحال، عقل يركز في الضيق ويعزب عن العام الأشمل المتشج مع كل شيء، عقل غير تحليلي، غير استقرائي، مكينة تعمل بالحدس، بالتخيل، بآلية من احتمال يُظن به الشمول وهو جزئي، منقطع، غير قادر على تجميع الاسباب والعودة بها الى المسببات، هو عقل فرداني، يطفو على الجمع ينظر له من عليائه ولا يجيد تحليله، لكنه يستطيع أن يبتدع له وصف يعجز العقل ويدهش الجنان، يطير بك ولا يحط، ولكنه هباء، مخدر فيما يبدو كفنجان من الكافايين.
هل لاحظت؟ أنا اتحدث عن العقل الشعري وليس عن الشعراء، قد تجده في شاعر، وقد تجده في ميكانيكي، أو طبيب، أو استاذ جامعي، العقل الشعري أبعد ما يكون عن العقلانية، لا يعرف الحد الوسط، هو ابن التهور، لهذا يكون الشعر عنصرا استثنائيا، جارفا، مبهرا، لكنه لا يبني ولا يصنع الحقيقة.
لا اذكر الان بالضبط من قال أن العقل العراقي عقل شعري، بعكس العقل المصري الذي هو عقل تحليلي، لهذا فشلنا في بناء الدولة، من يصنع الرأي العام لدينا شعراء، وكينونة الشعر أبعد ما تكون عن النظام، والتوازن، والمرونة، والنسبية، التي هي عماد عناصر الدولة، لهذا لم نجد طه حسين عراقي، ينقد بعمق، ويفند بتحليل، وجدنا شتامين، الحياة بالنسبة لهم أسود أو أبيض، وادعاء مطلق بامتلاك الحقيقة، الحقيقة المتخيلة.
حبايب الروح الشعراء، بعضكم هنا أعده من خاصة أهلي، ممن لا اصبر على زعلهم حتى أنني اتجنب الخوض أمامهم بالكثير مما اتبناه من آراء، لخوفي من مجرد زعلهم وتكدير خواطرهم، لكن، بعض رفاقكم لا يعدون ما قلته، ينفتلون في الطرقات يتعاملون مع كل شيء بشكل شخصي، يظنون أنهم يحملون مهمة إصلاح العالم وكشف زيفه لتقديمه على طبق الحقيقة المطلقة للعامة، كأنهم انصاف آلهة مكلفين بقيادة البشرية نحو خلاصها، يريدون الكتابة والحديث حول كل شيء، وكل ما يمر في طريقهم يبدو وكأنه موجه لهم، كل الاخرين مزيفين وهم التجلي للمضمر الاصيل، الاخرون على خطأ وهم الذين مخروا عباب كل صحيح مطلق، الاخرون تملكهم العفن وهم الاطهار، بنو آدم جبناء ناقصي الرجولة وهم بشجاعة الف عنترة وعزم ألف هرقل، اذا قال امرئ قولا وجدوه موجها نحوهم، فيهبون لطحنه كأن أُسد نفّرتهم من مراتعهم.
يظنون أنهم قادرين على فهم السياسة، والدين، والمجتمع، وكل ما بين سماء الله وارضه، لا يعرفون حدودهم وقدرتهم، وإلا بربك شخص قضى عمره يعارك حماسة البحتري، ومساجلات المتنبي، ونفاجة سعدي يوسف، واقتحامية النواب – سلام الله عليه – كيف يعرف الفرق بين النظام والمؤسسة؟ بين الدولة والسلطة، بين التنظيم والنظام والحكومة والنظام السياسي، مفهوم المثقف لديه ملتبس، كيف لمنظّر أدبي أن يفتي في السياسة، مثل هذا، لن يحاورك، لن يفهمك، لانه لا يريد ان يفهم او لان ادوات فهمه مختلفة، يريد فرضها عليك لا يتفق الشعر والنظام، أي نظام، الشعر ابن الفوران، ابن المسيل الجارف، الشاعر ابن الصدام، يريد أن يجرك إلى النزال لاجل النزال.
الذين تملكهم العقل الشعري لا يستطيع احدهم أن يحاورك بأدب دون استخراج الشتائم التاريخية من كيسه، دون عبارات جاهزة واتهامات مسلوقة الف مرة، يطلقها كبصقة في وجهك بغل، يشتم فكرتك حول التاريخ ويعيرك بها، على الرغم من أنه في الواقع ابن سردية تاريخية مضادة لا اكثر، لن يتمكن من كتابة شيء دون شتيمة وتخوين، هذا قالب جاهز يمكنك ان تضع فيه الكثير من ثوار الفيسبوك.

الشيخ شاكر القريشي

يرتبط هذا الرجل بواحدة من أكثر زوايا ذاكرتي دفئا وأمانا، بتلك السنوات البعيدة من طفولتي، حين كان الأمل يملأني، والتطلع للمستقبل بطموح وشغف وأحلام واسعة، وثقة بإيماني، حين كان أمثال هذا الرجل يبثون الطمأنينة في روحي، جلست تحت منبره في مجلس آل بحر العلوم، قبيل منتصف تسعينات القرن الماضي، دخلَ المجلس المهيب وقائده يخطو به فوق رؤوس الجالسين، ازرار قميصه مفتوحة كعادته، حتى وصل لمنبره، صعد متعكزا على كتف قائده بيد وعلى عضادة المنبر باليد الأخرى، كان يتحدث بهدوء، يركز على البحث التاريخي، ينقل الوقائع بمصادرها، دون إثارة للفتنة، وتجنب للمختَلَف بشأنه من الوقائع.
مضت تلك السنين التي كنت أتلقف ما يقوله من احبهم مثله دون نقاش، فتهجع روحي وانظر للقادم بشغف، صار الشك والقلق ديدني، لا في مستوى تلقى المعرفة وحسب، بل على مستوى حياتي الشخصية وطريقة عيشي، قلق في قلق مداف بالقنوط، لم يعد الشيخ ولا أضرابه قادرين على منحي الطمأنينة ولا المعرفة، ولكن، وبين كل هذه الحرائق التي تلفني، يظل وجه الشيخ البصير، الباسم بالفطرة، متوهجا في ذاكرتي، صوته الهادئ بنبرته الباكية يقودني الى اجمل مرابع سنواتي الغابرة بذاكرتها المعقدة حد الاضطراب، يمسك بيده اللاقطة، عيناه تغرورقان بالدمع، فيبكي الصغير الذي كنته، الجالس تحت منبره صحبة الباكين، ويضرع معهم، ثم يخرج الى الشارع وقد هجعت ظنونه، وتجلى مستقبله عامر بالأمل، يخب الى الدار العتيقة في طرف البراق، وصوت الشيخ يطفو، يحمله بيديه فوق بحر من السواد، تلك الأيام التي لن تعود، مضت كما مضى الشيخ آمنا راضيا، لأظل هنا بمفردي صحبة الهواجس الموجعة، بكل قلقها الذي يغور في روحي حفرا، روحي التي ظلت طريقها نحو الشيخ الخفيض الصوت، بوجهه الباسم، وعيناه الدامعتان.
الشيخ شاكر القرشي، يغادر لرحمة ربه الكريم في الشهر والأيام الأقرب لروحه.

محمد رضا الكرماني

لا اذكر بالضبط متى انتبهت لوجوده، هو من طرف البراق، مثل اسرتي، لكن بيته يقع في “عگد” بعيد عن “عگد” اسرتي، وأكاد أجزم أنني شاهدته أول مرة في شارع الصادق حين كنت طفلا، لم يكن بإمكانك أن لا تنتبه للرجل الضئيل البنية، الأسمر، بعويناته السوداء السميكة، وبدلته الانيقة، وربطة العنق المتميزة، البدلة التي لا يبارحها صيفا ولا شتاء، صحبة أخيه الذي لا يختلف عنه بالسمت إلا بعينيه اللتان لم تغطيهما العوينات، بشعرهما الأشيب، الهيئة التي بقيا عليها منذ شاهدتهما أول مرة، الى اليوم.
كنت اسأل نفسي، لماذا يرتدي الرجلان هذه البدلة على الدوام؟ ماذا يعملان؟ كنت صغيرا، لا أعرف القواعد التي وضعها التربويون القدامى لانفسهم، سمت من الاناقة والرصانة الوقورة، يليق بحامل العلم ومعلمه، نسق تربوي يعود الطلبة على التحضر، والاحترام، والرصانة في العيش.
بقيت لسنوات طوال اتتبع الرجل وشقيقه من بعيد، وهما يخبان في دروب النجف، والاحترام يحيطهما حيث حلا، اتطلع نحوهما بإجلال يشوبه الفضول، بعد ٢٠٠٣ جمعتني بأبي ظافر خصوصا بعض المواقف التي كان بيننا فيها سلام عابر، تحية يعلوها ما يكون بين شيخ وقور وشاب صغير من احترام للكبير، وعطف على الصغير.
ثم دارت الأيام، وجمعتنا في نزهة الى أحد بساتين بحر النجف في “الشواطي” كما نسميها، صحبة المرحوم الشيخ محسن الأنصاري، والاخ العزيز ابو احمد؛ جاسم الجزائري، هناك، سألني الرجل المهيب، الأنيق أبدا عن أسرتي، ليفاجأ بأنني جاره، وسليل اصدقائه سواء من ناحية الأب، أو ناحية الأم، لقرب داره من دار أجدادي لأمي في شارع الصادق، فأمسك يدي بحب، وظل طوال النزهة يحادثني بحفاوة، ويرسل السؤال تلو السؤال عن كبار أسرتيَّ كلاهما، فردا فردا، رجالا ونساء، حتى أن الشيخ الانصاري رحمه الله تبرم آخر النزهة وقال له: “عمي ابو ظافر اليوم ما سولفت ويانا” فقد كان جميل المعشر، واسع الاطلاع، ممتع إذا حدّثك سلب لبك بنوادره، ومعرفته بالأدب، والناس، والتاريخ، وأهل النجف، حتى لا يكاد يفوته شيء عن شيء في هذه الأزقة العامرة بالتاريخ والشعر والفقه.
ازاء وقوفي على معرفته بالأسرة، سألت اهلي عنه، حتى جدتي لأمي كانت تعرفه بشكل جيد، فهو جار وأي جار، سليل أب وجيه ديِّن مهاب محترم، وهو تربوي خرَّج أجيالا من الطلبة الذين داروا في نواحي الحياة، يعمرونها بما تعلموه منه.
ثم صار كلما شاهدني استوقفني، يسلم عليّ بمحبة كبيرة، ويسأل بتلطف عني، أهلي، دراستي، عملي، حتى اخبرته بقبولي للدراسة في الماجستير ففرح كأنني ابنه الذي ما أنجبه، كلما التقينا صدفة امسك يدي وقادني معه لمسافة من الطريق، حفيّ بي، آنس لممشاي معه.
لعلي لم آنس لرجل كبير في السن بعد جدي الحاج صاحب إعبيد مثل أُنسي لأبي ظافر، محمد رضا الكرماني، الباسم أبدا، الرضي، الوحيد في داره، الكثير بين أهله في النجف، أحببته كثيرا، وأشعر اليوم أنني فقدت واحدا من أهلي إذ فقدته، بعيد عن بلدي، ومدينتي التي أحب، فلا استطيع حضور مجلس عزاءه، ويوجع فؤادي أنني لم أره منذ مدة بسبب ضيق وقتي حين أعود للنجف آخر الأسبوع.
وداعا عمي أبو ظافر، آلمني رحيلك أيها النبيل النقي العفيف.

21/ 9/ 2019

روما

جعيفران الموسوس

كان صوت الفرات – يخب مسرعا نحو الأفئدة التي تنتظره – النسيم الذي يحدثه جريانه؛ يدفعانه بإحكام صوب دجلة، بمائها المنساب رويدا
فكانت بغداد، التي تملئ فم الأديب بالذهب ـ أو هكذا قيل له ـ
كان يتطلع الى حياة تليق بشاعر
ينفق عن سعة
ويسكن في رحب
ويأكل كما يحب
تصب في اذنه الموسيقى وضحكات “الكرخيات”
وردها معدم لا ميراث بجيبه
ولا وجيه يحميه
عرف المدينة بقدميه
جالها طولا وعرضا
لمس كبريائها وجمالها وخيباتها ووجعها
المدينة التي حلم بأن يعيش حرا فيها
سلبته نفسه
ضربته حتى اثخنته
عصرته حتى يبس
واطفأت مصابيحه، كسرتها قنديلا فقنديلا حتى صارت العتمة فراشه وغطائه
وردها خالي الوفاض إلا من أمله
فاختضمته قصورها الفسيحة، وبيوتها الضيقة، حتى مات الغد في قلبه
وصار عقله رميما تدوسه الارجل وتدعكه دعكا
يغرق في وساوسه
يغيب في لحظات من الهلع بمفرده
ثم يثوب، ليهيم في الطرقات التي أوحشتها الحروب والحفر
فتتبعه همسات الكبار وضحكات الاطفال
تسخر من جعيفران الموسوس
وهو، المدقع
بأحلامه الخاسرة
وأماله الذاهبة مع أمواج دجلة واشرعة قواربها الغاربة، التي يتمناها الشعراء كفنا حين يأزف المغيب
يطفو على السخرية ولا يسمعها
جعفيران يتمتم، وهو يدور حول ذاته، وحيدا، منذ قرون وقرون:
طافَ بِهِ طَيفٌ مِنَ الوَسواسِ
نَفَّرَ عَنهُ لَذَّةَ النُعاسِ
فَما يُرى يَأنَسُ بِالأُناسِ
وَلا يَلَذُّ عِشرَةَ الجُلّاسِ
فَهوَ غَريبٌ بَينَ هذي الناسِ
الصورة: زقاق من بغداد التي شغفت جعفيران، وحطمته، كما هو شأنها، بعيني.
بغداد 8/ 2019

#جعيفران_الموسوس

أم سمير

 

لا اذكر السنة تحديدا، ربما في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي، اشترى أبي وصديقه وشريكه: أبو زينب، صاحب العصيبي، سيارة فولكسفاكن طراز ترانزبورتر (Volkswagen Transporter) ميني باص صفراء اللون، كانا يطلقان عليها اسم أم سمير، ولعله كان الاسم الدائر السائر لها تلك الأيام.

لا اذكر كم مرة ركبت تلك السيارة، لهذا لا اعرف تفاصيل صالونها الداخلي بشكل واضح، أذكر أن هناك قاطع يفصل مقصورة السائق عن السيارة، وخلف الباب الخلفي المنزلق الذي تدلف منه لحوض السيارة الخلفي، كانت هناك مخارج لجهاز التبريد في السيارة ـ ربما، لا أذكر ـ لا ادري إذا كانت هناك مقاعد خلفية في السيارة، تقريبا لا اذكر من مرات ركوبي تلك السيارة سوى مرتين، في إحداها اصطحبني أبو زينب ليشرب الحليب صباحا حين كنا ننتظر خروج أبي ليذهبا إلى العمل في الحي الصناعي، لا أدري لم تأخر أبي وأرسلني قبله، كان الجو شتاء بارد، سألني أبو زينب أذا كنت أريد الذهاب معه لشرب الحليب، وكطفل لم يتجاوز العاشرة وافقت، اذكر أن المحل كان قرب ساحة ثورة العشرين، وحين وصلنا تصاعد خوف الطفل لدي، وملأني الرعب من تذكري منع أهلي لي من أن آخذ أو آكل من أي شخص دون إذنهم، فرفضت أن ارتجل معه لشرب الحليب، رغم توسلاته.

ويبدو أننا قد تأخرنا قليلا، فعدت لأجد أبي ينتظرنا على الشارع العام بقلق، قرب مقبرة آل الصائغ على جهة النجف الجديدة الموازية لطرف البراق، حيث بيتنا القديم، ولقلقه الشديد نالتني صفعة معتبرة، هي من الصفعات القليلة التي وجهها أبي لي خلال حياتي، وانخرط في عتاب شديد لصاحبه لأنه اخذني ولم ينفع اعتذار أبو زينب ومحاولته الدفاع عني.

المرة الثانية التي اذكرها مرتبطة بعلة أم سمير الكبيرة، وهي إطاراتها دائمة العطب، أذكر أن أبو زينب لم يكن يتحدث عن السيارة دون ذكر آخر زياراته لـ”البنـﭽـرﭽـي” صحبة المحروسة الصفراء التي يسر لونها الناظرين، ذاهب آيب منه، دون جدوى، ذات يوم، تأخر أبي في العمل، ويبدو أنه نسي شيء ما وكان مستعجلا، دار بي والسيارة في عدة أماكن، ليعود إلى الحي الصناعي عقب انتهاء ساعات العمل، ويقتحم بأم سمير أرضا غير مسفلتة، وعرة ممتلئة بحطام الطابوق وشظايا الزجاج، وبسرعة، كانت الكلاب السائبة تنبحنا أنّى التفتنا في تلك الظهيرة القاصمة، وخلص، لا اتذكر تفاصيل أخرى، لكن الذي لا انساه أبدا هو ما فكرت فيه ساعتها، قلت لنفسي، أن كثرة العطب الذي يصيب إطارات أم سمير هو لأنها مدللة، لأن أبي وصاحبه لا يحملان السيارة أي ضغط أو جهد، لهذا صارت مائعة، كثيرة العطب، وأن ولوج أبي إلى هذه الأرض الوعرة اليوم هو  أفضل دواء لهذه السيارة النحسة، كثيرة الشكوى، وستتعلم الأدب وتتجلد على الشدائد، اتذكر الواقعة، وأتذكر أن إطاراتها لم تتأثر بعد تلك الحادثة، وأقف مستغربا من طريقي تفكيري في سني اليافعة تلك، كيف ناغمت أبا نؤاس حيث يقول:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

وداوني بالتي كانت هي الداء

لا ادري كيف!

على أي حال، قبل مدة وأنا أتصفح أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وجدت مجسمات صغيرة لسيارات متعددة، كان من بينها الظاهر في الصورة المرفقة، صرخت دون وعي: يا الله، أم سمير! ودون تردد اشتريت النموذج.

لقد أحببت تلك السيارة التي لم أركبها كثيرا، أحببتها بشغف كبير.

 

اسطنبول

انها المرة الاولى التي ازور فيها مدينة ذات تاريخ امبراطوري توسعي – هل ألطِّف المعنى القديم للاستعمار؟ نعم، أنا افعل لسبب سيتضح لك يا رعاك الله – زرت مدننا كثيرة، مدن جميلة، بعضها امتلكت تاريخا عريقا زاخر بكل ما يستوقفك كثيرا لتتأمله، وتتفكر بمساره وتحولاته، ولكن، مدن مثل التي افتتحت بها حديثي؟ لا، اسطنبول الاولى.
هذه المدينة مثل أي مدينة فائقة الجمال، تنطوي في ثناياها على قسوة بالغة، روحها الحسناء متوهجة تحرق كل رقيق، وتطحن بثقل متطلباتها كل هش ضعيف، لكنها مدينة ذات جمال باذخ، متوحش، كل ركن فيها يستوقفك، يدهشك حتى يسلبك انفاسك، حتى اكثر احيائها خطورة، يتربع على صدر خليج القرن الذهبي بكل جماله – مثل منطقة قاسم باشا، الخطرة التي نشأ #اردوغان فيها.
ولكن، وبالرغم من كل ذلك، لم استطع أن احبها لأن كل “سراي” جميل فيها، وكل مسجد مهيب يهيمن بارتفاعه الشاهق على بناياتها التي لا تعلو فوق معالمها التاريخية، على الرغم من تذمر صديق اكاديمي اسطمبولي مما يراه تراث مضاع في مدينته – اتذكر مدينتي التي غطاها الاسمنت بوجع – لم احبها، لأن كل هذا الجمال يذكرني بما سلب من بلداننا، ونقل إلى الاستانة، ليوزعه السلطان – ظل الله في الارض كما كتب على باب قصر طوب قابي – كيف يشاء، فتشاد السرايات “القصور” والمساجد، والاسبلة المذهلة.
ولكن مهلا، واعود هنا لسبب تلطيفي لماضي مثل هذه المدن، اليست بغداد التي احب، واعيش فيها لأكسب عيشي، اليست ذات ماض يشبه ماضي اسطنبول، بعبارة الرشيد التي ترن في اذن التاريخ مخاطبا غمامة مرت فوق رأسه: أينما أمطرت لي؟
اقف هنا لأسأل نفسي، ألا أنقم من بغداد ما نقمته من اسطنبول لو حاكمتها بعين الذين جُبي الخراج منهم لخليفة بغداد كما جُبي لخليفة اسطنبول؟ نعم، هي امبراطوريات قديمة ما كان لها أن تكون غير ما كانت، هي ابنة سياقها التاريخي، ومتطلبات زمنها، لكنني هنا اركز على الذات البشرية، عن منظارها إذ يستدير لداخلها، إذ تحدق في المرآة، هل تحاكم التاريخ بذات المعيار؟ هل تقف محايدة على الدوام؟ هل تقرأ الحدث في سياقه الزمكاني بذات الموضوعية دائما؟
لا اظن، حكايتي مع اسطنبول وبغداد تخبرني بذاتي المنحازة، وهي تحب وتتداعى افكارها الداخلية في غير السياق العلمي على الاقل.
#بغداد
#اسطنبول
الصورة: مدخل قصر طوب قابي، تصويري

لا شيء مجانا

كل جميل ترغب بالاستمتاع به له ثمن، للجمال مهرهُ، لتلبية حاجاتك مقابل يستلزم أن تدفعه، حتى دخول المساجد للفرجة هنا له ثمن، برج مراقبة بائس يستلزم أن تدفع لتدخله، وبجوفه محلات تبيع لك وتجبي المزيد والمزيد، كل شيء قابل لأن يتحول الى مورد رزق للناس، وللدولة الضامنة لك، إلا في العراق.
تضع الدولة رسم تأشيرة بائس على الزائرين فتقوم الدنيا ولا تقعد، ويتهم من يسند القرار في عقيدته وضميره الديني، رسم حدودي بائس مقابل سكن مجاني على طول الطريق بين كربلاء وغيرها، طعام مجاني متنوع وفاخر، الدولة تسخر كل مواردها وبنيتها التحتية – ليخرج سماحة المتولي الشرعي على الحضرة العباسية منددا بتقصيرها رغم كل شيء – بيوت الناس مفتوحة، والدوائر معطلة، والشوارع مكتضة “مالك محط رجل” العتبتان المحترمتان توفران باصات نقل مجاني من الحدود الى كربلاء، لتقطعا رزق سواق بسيطين ينتظرون المناسبة من العام الى العام للتكسب خلالها، اطنان من النفايات المستوردة من دول الزائرين، [المساكين] الذين استكثر الناس عليهم الدولارات العشرة، نفايات لا يعاد تدويرها، تملئ الشوارع وما تبقى من مساحات خضراء، ضغط على شبكات متهتكة قديمة للمياه والمجاري والكهرباء، كل شيء مشرع وكأننا في مضيف شيخ قديم لا في دولة حديثة لها متطلبات وواجبات وحقوق، ونستكثر التأشيرة البائسة آخر المطاف!!!
#اركض_يعامر_اركض
#اسطنبول
الصورة: #برج_الفتاة، تصويري.

موقع آخر في Arablog