arablog.org

Mr.Holmes

من الافلام الجميلة، واطئة الكلفة، عالية المضمون.

يكفيك منه ان تستمتع بأداء السير إيان ماكلين، وهو يرسم بدقة كل ما يخالج الشخصية التي يؤديها.

سنجد السيد شيرلوك هولمز، بطل سلسلة القصص البوليسية الشهيرة التي ألفها السير آرثر كونان دويل، في مزيج بين الوقائع الشخصية التي تعرض لها دويل نفسه في الحقيقة، وبين الوقائع المتخيلة للشخصية التي رسمها، المحقق شيرلوك هولمز، وأحسب أن من المهم ملاحظتها قبل أن اتحدث عما فهمته من الفيلم.

في السلسلة الأصلية، سنجد أن من يدون الوقائع هو الدكتور واطسون صديق هولمز وشريكه في العمل، بينما يكتفي هولمز نفسه بأداء دور البطولة، ولكن في الحقيقة فإن السير كونان دويل كان طبيبا، ربما لهذا اختار ان يدون طبيب سيرة بطله، كما انه اقتبس شخصية هولمز، وقدراته في الفراسة من شخصية أحد اساتذته.

ولكن المحقق الذي ابتكره كونان دويل، وصنعه من مخيلته، طغت شهرته، وغطّى على اسم مؤلفه ورسمه، لدرجة أن الرسائل التي كان المعجبون يرسلونها إليه كانت تعنون وتصل لبيته مدموغة باسم شيرلوك هولمز، لا اسمه كمرسل إليه، ليس لكونان دويل شخصيا، بل مَنح الناس لقب النبالة الذي كرمته به الملكة لهولمز، فصار السير شيرلوك هولمز، حتى فاض به الكيل وقرر قتل محققه في إحدى الروايات، ثم عاد بعد سنوات من العزلة ليبث في روحه الحياة، ويبين انه كان مختفيا في أحدى القرى النائية في أوربا.

أما في هذا الفيلم فإن هولمز نفسه هو من يدون القصة، لأنه وجد في الوقائع التي رواها صديقه واطسون لذات القصة شرخا يخالف منطقه، منطق هولمز، وما يعرف انه كان ليفعله في مثل هذه الملابسات، الأمر الذي لم يستطع تفسيره، لوطأة اعراض الشيخوخة والنسيان الذي يعصره عصرا، الأمر الذي تطلب ان يتم قص الفيلم بطريقة تداعي الذاكرة، والقفز بين الحدث الحاضر والحدث الماضي، عبر ذاكرة عجوز خرف بكل ما يمكن ان يثيره هذا الموقف من التباس وغموض، مما يذكرك بالروايات العظيمة التي كتبت بهذا الاسلوب، مثل الصخب والعنف.

سنجد في لحظة تذكر ان هولمز يسكن في عنوان هو غير المعلن عنه رسميا، وان السائحين وغيرهم يزورون ويرسلون الرسائل للعنوان الخاطئ الذي زوده بهم د. واطسون، بيت آخر مقابل البيت الحقيقي، ليقف هولمز بكل اعتداده بنفسه، ونرجسيته العالية يراقب من بعيد ساخرا من هؤلاء الناس، متمركزا في علياء عزلته التي يراها لائقة بشخصه، كما سنستشف من كلامه لاحقا.

ولكن الحقيقة انه كان يدرك مدى ما تحمله هذه العزلة من قسوة وخداع في ذات الوقت، سنجده طوال الفيلم يحاول جاهدا أن يتمسك بأطراف ذاكرته الممزقة، علها تقيه عري الوحشة التي تعصف به في أيامه الأخيرة، ممتزجة بشعور طاغ بالذنب، يسيطر عليه ويفقده راحته الموهومة، لسبب غامض لم يعد يتذكره، انه غارق في عزلته، ويدرك مدى وحشة هذه العزلة تحت وطأة الخرف، ثنائية معقدة، شعور بالذنب من سبب مجهول، قاده لعزلته، وعزلة قاسية تلح عليه لتذكر سببها الرئيس، دون أنيس، أو محفز للحياة.

ثم يجد في الفتى (روجر) ابن مدبرة منزله خشبة أمل وسط بحر الذاكرة المثقوبة واللارغبة في الحياة الذي يغرق فيه، طفل ذكي لدرجة لافتة، حتى أن هولمز وفي فظاظة معهودة منه يقول لوالدة روجر ان الاطفال الاستثنائيين يولدون في العادة لوالدين لا يملكان ما يثير الانتباه، طريقة تعامله مع الفتى، وحرصه الشديد عليه تخبرك بأنه تحت هذه التصرفات القاسية انسان، قلب ينبض بالمشاعر وليس صخرة من قسوة لا رجاء فيها.

بل إن بعض التفاصيل المتعلقة برحلته إلى اليابان تبدو وكأنها مخصصة فقط للكشف عن ذلك الانسان القابع في أعماقه، رغم ما أحاطه به من حواجز، هو يسافر إلى اليابان للبحث عن عشبة الرماد الشائك، علّها ترمم ذاكرته المتداعية، وفي مشهد مبهر، يزور هيروشيما وفي وسط دمار القنبلة الذرية، ورماد الموت الذي يملأ المكان بوحشية، يركض مضيفه الياباني فجأة، ليزيح كومة من الرماد بيديه، بعد ان اكتشف وجود تلك النبتة التي يبحث عنها هولمز، يقول هولمز لاحقا وهما جالسين في المطعم مستغربا من طريقة إيجادهم للعشبة (هيري سانشو): كنت احاول احتساب احتمالية إيجاد (هيري سانشو) في مكان يخلو من الحياة تماما، فيجيبه الياباني: ربما هي الحياة التي ترغب بتأكيد وجودها!

الولد (روجر) ـوأثناء سفر السيد هولمز إلى اليابان لتدارك ذاكرته ـ يدخل إلى مكتب هولمز، ويقرأ القصة التي يحاول العجوز الوصول بها لنهاية تريحه، ويعرف بذكائه انها السبب في شعوره الطاغي بالذنب، ثم يكتشف الرجل ـ الذي قضى حياته في تتبع الأدلة ـ بعد عودته ان الطفل قد قرأ مسوداته، ويبدأ بالنقاش معه حول الأمر، منبهر من ذكاء ابن المدبرة هذا، ورويدا… يقتحم روجر حواجز هولمز، فيشركه في العناية بنحلاته، التي يشكل وجودها إشارة مهمة في حياته سنعرفها لاحقا قبيل نهاية الفيلم.

أحسب أن الفيلم يحاول القول لنا بأن الانسان ومهما غطى نفسه بالقسوة، وأفرط في عزلته، فإنه في النهاية كائن لا يرغب بالعيش بمفرده تماما، يصرح هولمز في لحظة من البوح النادر أمام امرأة ـ صنعت به في ربع ساعة ما يعادل عمره الموحش كله ـ انه كان طوال حياته وحيدا، مع امتياز الذكاء، كتعويض لهذه العزلة، تسأله المرأة المفجوعة بأطفالها: وهل كان هذا كافيا؟ هنا يشعر بالمفاجأة، ويتبخر كبرياءه ليقول دون ثقة كبيرة ونظرة شك بائسة تعلو وجهه: ممكن أن يكون، ولأنه يدرك سخف ما زعمه، استطرد قائلا: شرط ان يكون الانسان محظوظا كفاية ليجد مكانا في هذا العالم يعيش عزلته فيه، صحبة روح لديها رغبة مماثلة لرغبته في تلك الوحدة، مقرا بأن الوحدة المطلقة غير ممكنة للانسان، لكل إنسان.

بل اننا سنكتشف في النهاية، ان هذه الفضاضة الشديدة والنرجسية الفاقعة لم تكن سوى نتيجة لشعوره العارم بوطأة الوحدة على روحه، وأن عمله كمحقق لم يكن إلا تعويضا للشعور بالذنب تجاه سلوكياته تلك، ففي لحظة من الفيلم، وبعد ان تهاجم الدبابير روجر، وعقب محاولة أمه ان تحرق خلايا النحل بظن انها من لدغت ابنها، يحاول هولمز منع الأم، التي تتهمه بأنه لم يهتم لروجر، وأن عاطفته لم توجه لسوى نحلاته، تقول له بأنه لم يأبه بروجر الصغير، فينخرط هولمز الجبار القاسي بالبكاء على الطفل الذي يحبه كثيرا، الذي من الممكن أن نستنتج انه يجد فيه صورته، ذلك الذكاء الاستثنائي ـ ما دمنا لا نعرف شيئا عن هولمز ونشأته، ومحيطه العائلي سوى ما يرد من إشارات لأدوار معينة أداها شقيقه الارستقراطي في حياة هولمز العملية ـ.

إزاء غضب الأم التي تكاد ان تخسر طفلها، يعترف هولمز الباكي بأنه لم يأتِ إلى هذه العزلة إلا ليتجنب إيذاء شخص آخر، لأنه وبأنانية مفرطة، وخوف من التجربة رفض ان يساعد آن ـ المرأة التي اعترف لها بوحدته وصنعت في نفسه كل تلك المشاعر المتضاربة رغم انه لم يقض معها سوى وقت قصير ـ ونتيجة لسلوكه ذاك انتحرت المرأة، فقرر ان يأتي هنا، بعيدا عن الناس، لكي لا يجد سبيلا لإيذاء أحد آخر.

في نهاية الفيلم يحاكي هولمز ما شاهده في رحلته اليابانية وسط هشيم هيروشيما المفجع، حيث لاحظ ـ وقتها ـ رجلا قد صف دائرة من الأحجار حوله، ودأب بينها راكعا ساجدا، وإزاء نظرة السؤال التي علت وجهه يخبره مضيفه الياباني بأن هذه الاحجار هي رموز عن الأحبة الذي فقدهم الرجل، وهو جالس هنا لتكريمهم، ليصف هولمز في زاوية من ارضه أحجارا بيضاء، وهو يعدد أسماء من فقدهم، أخوه، واتسون، آن…

أنها بالفعل الحياة التي ترغب بتأكيد وجودها، هولمز، ورغم القسوة التي أحاط نفسها بها، ما هو في النهاية إلا انسان، يحمل في أعماقه مشاعر حب شاء أم أبى، هو في النهاية مثال آخر لما كتبه اندريه مالرو يوما، وهو يقص ردة فعل عمه على انتحار والد مالرو، شقيقه: (الانسان؛ كومة بائسة من الأسرار)، وجمع يديه كمن يكوّم اوراقا يابسة على منضدته، وهولمز هنا، ما هو إلا تلك الكومة البائسة من الأسرار، لا نعرف عنه الكثير، لكنه ومن المعلومات القليلة التي يمنحها لنا عن نفسه يؤكد ذلك، مهما حاولت ان تكون قبيحا، فإنك لن تتمكن من القضاء على ذلك الإنسان القابع في أعماقك، الذي صنعته الحياة، وكونته التجارب، وإن القسوة المصطنعة لابد ان يكون في جسمها المتين نقطة ضعف تنفذ عبرها مشاعرك الدفينة، كما تفعل الحمم البركانية بالأرض.

رغم ذلك، من الواضح ان الفيلم لا يحاول تقديم هذه الفكرة بوصفها قاعدة عامة كما احسب، إذ من غير الممكن تفسير سلوكيات القسوة والجرائم الجماعية التي يقوم بها الانسان اليوم، في مناطق كثيرة من هذه الأرض، وبطرق شتى، وفق هذه القاعدة، وهذا التعميم، أنا احسب ان الفيلم كان يدور حول الفرد، حول الذات الفردية التي لم يتم تحفيزها لممارسة الجريمة ايديولوجيا لا أكثر.

وبالتأكيد فلا يمكن أن يخلو الفيلم من ضرورة ممارسة هولمز لألعاب الاستنتاج في التحقيق الخاصة به في عدة مواضع، مثل استدلاله على ان الدبابير وليست النحلات من لدغت الصغير روجر، وغيرها من المواقف التي لا يجب ان افسد متعة مشاهدتها بالإخبار المسبق عنها.

Director: Bill Condon

Stars: Ian McKellen, Laura Linney, Hiroyuki Sanada

لمعلومات أخرى عن الفيلم انظر على imdb:

Mr. Holmes

عن كربلاء وأشياء أخرى

 

(1)

يذهب بعض علماء الاجتماع والعلماء النفسيين إلى أن السنوات العشر الأولى من عمر الانسان بالغة الخطورة، وأن جزءا كبيرا من اللاوعي يتكون خلالها، وأن تلك الرواسب الكامنة كالأسس في الأعماق، تظل الصفيحة الأساس التي تقوم عليها بقية ما يكونه الإنسان لاحقا من صفائح، يقيم عليها بناءه الروحي والفكري، وأنها كذلك تظل تطفو على طبقات التجارب والمعارف التي يراكمها خلال حياته الطويلة، لتعلن وجودها الحاد بمناسبة أو بدون مناسبة، لتوّضح لك كيف تكون هذا الانسان، ومن أين جاءت عقده، ومسالك معتقداته، أتذكر انني كنت أتذاكى وأصنع من نفسي خبيرا بالنفس فأقول: (الانسان هو لاوعيه).

(2)

كطفل نجفي، سيكون من اللازم أن تكون نقطة اتصالي الأولى بالنشاط الجمعي لسكان المدينة هي المجالس الحسينية، فكيف بي إذا كان جدي لأبي ـ الذي توفي قبل ولادتي بعقد ونصف ـ هو رجل دين، وخطيب حسيني، تتوسط صورته بالعمامة بيتنا القديم في طرف البراق، لتحتل جزءا مميزا من ذاكرتي، جنب صورة متخيلة عن مكتبته العتيدة التي بيعت قبل ان تمر اربعينيته، ليشتريها زميله الشهيد السيد جواد شبر، كل ذلك، يصطف جنب صور قديمة غير واضحة تماما بالنسبة لي، أرتدي خلالها (دشداشة) سوداء، و(عركجين) اسود مطرز بـ(البلك الذهبية) وقد كتبت والدتي بتلك الذهبيات على مقدمته (يا حسين).

(3)

لا أتذكر بالضبط أول مجلس عزاء حسيني (تعزية كما نسميها في النجف) حضرته، لا زلت مترددا بين المجلس الذي أقامه الخياط حمودي في سرداب العمارة التي كانت تضم محله وخياطين آخرين [للمكان قصة ترتبط بها الأسطورة بالحلم بالعقيدة، وذكرها سيكون إطالة لا داعِ لها]، أو انها كانت تعزية آل المعمار؟ في منزل زعيمهم القديم في البراق، ولكن ما اعرفه بتأكيد ان تعزية آل المعمار كانت تبدأ قبيل طلوع الشمس، يوزع فيها كبير الاسرة طعام الإفطار، ومنه، ينتقل الناس عبر العكود (الدرابين، الأزقة الضيقة) إلى تعزية بيت القرشي، يقيمها الشيخ باقر شريف القرشي في بيت أخيه الشيخ هادي ـ رحمهما الله ـ في طرف البراق، في عكد آل شايع، بيت مبهر، متعدد الطبقات، كان الدخول له في أيام ضيق منازلنا تلك حلما مبهرا، كان التنقل بين الحجرات التي تفتح كلها لاستيعاب الداخلين، في طبقاته متعدد وصولا إلى السطح في جو الحزن ذلك أشبه بالمغامرة، لا أذكر من كان خطيب آل المعمار، لكني لا زلت أتذكر المرحوم الشيخ صالح الدجيلي خطيب بيت القرشي، وكان يعقبه بالتناوب بين يوم وآخر اثنين من (الرواديد)، يقرأ كل واحد منهما (كعدية: شعر دون لطم، وأحيانا يغامر احدهم بقراءة لطمية) الأول هو الشاعر الطائر الصيت الحاج عبد الرسول محي الدين، ولا زلت أذكر انه قرأ قصيدة عن حبيب بن مظاهر، وأنه قرأ مرة قصيدته (من على التل تصيح) القصيدة التي تقرأ بطور قديم استثمره عباس جميل مرة في أحدى اغانيه وهي (جيت يهل الهوى)، والثاني هو الشيخ طاهر امين شلاش، ثم يرسلني أبي إلى البيت عقب المجلس، ليذهب إلى بقية يومه، في الايام الاعتيادية إلى الحي الصناعي، وفي الجُمع إلى حيث لا أعرف، كما لا زلت لا أعرف أين يذهب، وكيف يفكر حتى اليوم، اتذكر مرة وحيدة صحبني فيها إلى تعزية في (عكد بيت الرشدي)، كان الخطيب هو صديق جدي وزميله، المرحوم الشيخ نعمة الساعدي، ولا زالت القصة التي قرأها حاضرة في ذهني، ربما لصوته العجيب الذي كان يقتحمك اقتحاما، وربما لأن أبي على غير عادته اصطحبني معه إلى احد امكنته، الأمر الذي مثل لي أمنية عزيزة، وربما لأني قرأت القصة في أحد دفاتر جدي القديمة التي كان يعد مجالسه فيها مسبقا.

ولكن تفاصيل التعازي الأكثر حضورا في بالي من تلك الطفولة هي التي اصطحبني إليها الرجل الأكثر تأثيرا في حياتي؛ جدي لأمي الحاج صاحب إعبيد الزهيري، اثنين منها على الأقل، الأول مجلس آل المرعشي في بيت الشهيد المرعشي الذي تحول إلى مدرسة الآن مقابل جبل الحويش، أتذكر حديثا دار عن المياه وطهارتها بين جدي وآخرين احدهم شريك جدي السابق، وصديقه، الحاج محمد الأيرواني، عقب انقضاء التعزية، وكنا على سطح الدار في الصيف.

الثاني هو مجلس الحاج محمد الأيرواني ـ نفسه ـ في بيته بالحي الاشتراكي، حيث شاهدت للمرة الأولى رادودي الأزلي، عبد الرضا البغدادي، وهو يقرأ القصيدة التي يحرص أبي على سماعها دوما (اطفال ونساوين)، كانت صحبة جدي، وفخامة البيت، وعبد الرضا، مزيج لا يمكن لي نسيانه أبدا.

كان لابد لي من ذكر هذه التفاصيل، قبل أن اعرّج على ذكر تفاصيل أسرية أخرى، تشد لاوعيي إلى كربلاء، سرديات تاريخية تعصف بروحي مهما كبلتها قيود عقلي.

(4)

كتبت قبل سنتين تقريبا بطلب من صديق تولى رئاسة تحرير مجلة نجفية مقالا عن كربلاء، كان عنوانه (كربلاء في الشخصية العراقية) تتبعت فيه باختصار شديد، وبعاطفية ملحوظة ما أراه آثارا لكربلاء الحسين في الشخصية العراقية، كتبت ان ما فشلت الدولة في صنعه من ولاء، وقدرة على التضحية لوطن حاضر في نفوس مواطنيه، قامت به تضحيات الحسين بكل رصيده الديني، وشجاعته العظيمة، ورفع بكربلاء تلك روح التضحية لدى العراقيين، وكتبت ان كربلاء الحسين كانت حاضرة في نفوس العراقيين بطرق مختلفة، باختلاف العراقيين ومواقعهم الاجتماعية: يخافون منها، يحزنون لها، وانها صبغت حياتهم بالحزن بالاضافة لميراث الحزن الطويل الذي رافق هذه الأرض، حزن يتوهج في لهجتهم، ومفرداتها الحزينة، وتراكيبها الممتلئة بالوجع، وكتبت في الأخير ان كربلاء كانت بالنسبة للكثير من العراقيين الفجيعة؛ والعزاء عن الفجيعة في ذات الوقت، ثنائية الفقد المقدس التي تصبّر المرء على فقده الشخصي.

(5)

كانت جدتي لأبي رحمها الله من النساء اللواتي فقدن الكثير من ابنائهن الذكور في طفولتهم، ثم تزوجت جدي بعد ان ولد له عدة ذكور من زوجته الأولى، وولدت لها اثنتين من الاناث قبل أن يطل عمي محمد علي بولادته، ليجبر خاطرها ووعورة عيشتها تلك، وسط الشرائك، ووسط أبناء أب يكبر أولهم أصغر أبناءها بخمسة وأربعين عام.

وفي السابعة عشرة من العمر، أوائل السبعينات، كان عمي محمد علي قد قرر ان يذهب مشيا إلى كربلاء في اربعينية الحسين، ولم يعد من زيارته، فقد غرق في أحد الآبار المنتشرة على طول الطريق.

هنا، تتناقل الأسرة حادثاً تتداخل فيه الأسطورة بالواقع، فبعد ان وصل الخبر إلى النجف، انفلت كل فرد من الاسرة يبحث عن الغريق في مكان، إلا أمه، ركبت سيارة إلى كربلاء، وأوقفت السائق في نصف الطريق، نزلت وتوجهت مباشرة ـ بقلبها الذي يحفظ الطريق، بعين القلب كما يقول النواب ـ إلى الخيمة التي سُجّي فيها ولدها الغريق، وضعت رأسه في حجرها، ثم انخرطت تتلو قصيدة عبد الأمير الفتلاوي في رثاء القاسم بن الحسن، القصيدة التي تبدو لي أنها كتبت لكل أم عراقية مفجوعة بولدها، وليس لرملة، وولدها القاسم وحسب:

آه يبني شكول عليك آه يبني

دولبني زماني بيك دولبني

كان عبد الرضا الرادود واقفا هناك، فانخرط يقرأ القصيدة، والزوار يلطمون حول الجسد الغافي في حضن أمه، الحلم الذي غرق قبل ان يتجلى، وحتى اليوم، لا تسمع عمتي هذه القصيدة، إلا ومزقها الأسى والبكاء، وهي تندب القاسم، متعزية به عن أخيها الغريق، الذي مات أبوه حرقة عليه بعد أشهر، بعد ان فقد أخٌ آخر له قبل مدة، وتعزى عنه بالحسين، وتلك قصة أخرى، لا تقل أسطورية عن هذه.

(6)

كان جدي يقرأ في مجلس من مجالسه في البصرة في شهر محرم، بينما دهس أحد سواق السيارات الدليم الذين ينقلون (الرقي/ البطيخ الأحمر) إلى النجف عمي عبد الزهرة وهو طفل صغير، ليقتله.

فوجئت الأسرة بالأب يدخل صباحا إلى البيت قاطعا سفرته، وما أن دخل حتى سأل: من الذي مات من أولادي؟ وبين تعجبهم من سؤاله، ومحاولتهم الالتفاف قبل اخباره، قال لهم، كنت نائما، وجاءني الحسين في المنام، أنهضني من غفوة، ناولني كأسا من شراب وهو يلح علي أن أشربه، ولما أدنيته إلى فمي كان مراً كالصبر، فلم أقوَ سوى على شرب نصفه، لقد منحني الحسين الصبر، فأخبروني عمن مات من أولادي.

ولكن المفارقة ان ابنه الذي مات على طريق الحسين، لم يجد له من عزاء، فذهب على أثره سريعا.

(7)

لماذا اكتب هذه الكلمات الآن؟

ربما لأني لا أجد ما افعله سوى هذا، ربما لأني أمر بأكثر أوقاتي ضعفا، وربما لأن اليوم كان موجعا جدا لي، لأمر يخصني، لا أعرف بالضبط ما يدعوني لكتابة هذه الأسطر، ولكن ما أعرفه أنني حتى اللحظة، لا أكف عن استحضار جرعات الأسى الهائلة التي تلقيتها في هذه الأرض، من تاريخها، وعقائدها، وتراثها، وكربلاء وسط ذلك كله ذروة الحدث، الحدث الذي يمنعني من كتابة أي شيء عنه، لأنني لن أكون محايدا مع كل هذا الميراث العاطفي والخزين الذي عززه اليساريون ـ ما غيرهم ـ في روحي تجاه شهداء كربلاء وآل علي، ولأني وما أن يمر أمامي جثمان شاب ملفوف بالعلم الأكثر قسوة، علم وطني، إلا وصرخ جاسم النويني في أعماقي بقصيدة عبد الحسين أبو شبع:

جسام يا ضنوتي

رايح

رايح من عيوني

تجربة سلطنة عمان التنموية… سياسات التعمين (4)

القسم الرابع….علي المعموري

ثالثا: المرأة والطفل والخدمات الصحية.

تشكل هذه الثلاثية متلازمة ضرورية واكيدة في عملية التنمية فبدون المرأة التي هي نصف المجتمع لا يمكن ان تسير التنمية بورة ايجابية وذلك لأن المرأة هي الحاضنة الاولى لبناة المستقبل كما ان هناك امورا ومهام لايمكن لغير  النساء ادائها ضمن مجتمعات اسلامية محافضة وضربت عمان مثلا يستحق التقدير في هذا المجال ولو من حيث الشكل العام لجهودها في تطوير قدرات المرأة وتعليمها تعليما يوازي مايناله الرجل وفي جميع التخصصات وكذلك على المستوى الاداري والسياسي حيث ان عمان من اوائل الدول العربية التي اعطت المرأة حق التصويت والترشيح للسلطاات التشريعية وسبقت دولا خليجية تلعب الحياة البرلمانية فيها دورا كبيرا وفاعلا ـ مثل الكويت ـ حيث بدأت التجربة العمانية بالسماح للنساء بالمشاركة تمثيلا وتصويتا في اتنخابات مجلس الشورى الاولى (1994) ولكن في ولايات العاصمة الست فقط. اما في اتنخابات (1997) فقد سمحت بالمشاركة التامة لكل النساء وبلغت نسبة تمثيلها حوالي (10%) على مستوى البلاد وإن ظلت مساهمتها محدودة حيث اقتصرت على (27) امرأة من بين (736%) اي بنسبة (3,66%).

الى جانب ذلك تشغل النساء اربعة مناصب وزارية (سنة 2007) هي وزارات التعليم العالي والسياحة والتنمية الاجتماعية ورئيسة للهيئة العامة للصناعات الحرفية إضافة الى مكانها التقليدي ضمن مجلس الشورى وعضويتها ضمن مجلس الدولة ومجلس ادارة غرفة تجارة وصناعة عمان ومجلس رجال الاعمال الى جانب مناصب رفيعة في الجهاز الاداري للدولة والادعاء العام ومجالس ادارة بعض مؤسست القطاع الخاص.

من جانب آخر تشكل برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الاجتماعية جزءا هاما من منضومة رعاية المرأة فقد تم تخصيص معاشات شهرية ضمن قانون الضمان الاجتماعي تصرف للارامل والايتام والعاجزين عن العمل والمطلقات واسر السجناء وغيرهم ممن لايوجد لديهم معيل ملزم وقادر على الانفاق عليهم وقد تم تخصيص (16) قطعة ارض عام (2005) لأسر الضمان الاجتماعي إضافة الى منح اخرى مثل منحة العيدين ومنحة تأدية فريضة الحج والمساعدات المالية الطارئة والاعفاء من رسوم الخدمات الجامعية للابناء على نفقة الدولة وغيرها من الامور بالاضافة الى ذلك بدأت برامج تطوير مهارات النساء ضمن بعض القطاعات البسيطة والواسعة الانتشار في نفس الوقت على سبيل المثال برامج تعليم الخياطة التي ادت الى ان تسيطر النساء العمانيات سيطرة شبه تامة على هذا القطاع.

وما يتعلق بالطفولة، وفي نفس السياق، فقد خطت عمان خطوات كبيرة في هذا الموضوع فأولا نظرت بعين الاهتمام مشاكل المعاقين حيث تأسست دار رعاية الاطفال التي تخدم الاطفال في سن (3ــ14) سنة اضافة الى مراكز الوفاء الاجتماعي وهي مراكز تطوعية اهلية ترتكز على تأهيل المجتمع المحلي لرعاية المعوقين ويستفيد منها اكثر من (1870) طفلا وطفلة معاقة وحققت عمان ميداليات ذهبية وبرونزية ديدة في مباريات المعاقين الدولية في عدد من دول العالم.

وايضا فقد اعيد تشكيل وتحديد اختصاصات اللجنة الوطنية لرعاية الطفولة والتي انبثقت منها لجنة متابعة تنفيذ بنود اتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عمان عليها ووصلت بيوت رعاية الطفل والحضانات حتى الى المناطق الريفية.

وهناك ايضا دار رعاية الطفولة التي تخدم الايتام وايضا نظام الاسر البديلة التي تحتضن الاطفال الايتام ضمن نطاقها وتلعب دورا هاما في رعاية الطفولة.

اما قطاع الخدمات الصحية فهو  من اهم القطاعات التي حققت تطورا واسعا وملموسا في كل ميادين الرعاية الصحية. واعتمدتعمان نظام توفير الرعاية الصحية الاولية كمدخل اساس للرعاية الصحية بكافة مستوياتها وبدرجة عالية من الجودة في مختلف نطق السلطنة  حييث توفر (49) مستشفى ـ منها (13) مستشفى مرجعي ـ تشكل نسبة (90%) من اجمالي المستشفيات في السلطنة وفق احصائيات عام (2007) وتقدم المراكز والمجمعات الصحية والعيادات الخارجية بالمستشفيات الرعاية الصحية الاولية والفاعلة والجيدة وتنتشر في كل مناطق عمان.

والمستوى الثاني تقدمه المستشفيات المرجعية في عشر مناطق صحية وهي توفر رعاية اكثر مهارة وتخصصا وفي المستوى الثالث للرعاية الصحية توجد المستشفيات التخصصية وهي مستشفيات تتخصص بتقديم رعاية صحية ذات تقنية عالية في احد المجالات الصحية خاصة. وهي تنقسم الى ثلاث مستشفيات: مستشفى خولة يتخصص بجراحة الحالات الدقيقة المتعلقة بالعظام والمخ والاعصاب والتجميل والحروق وغيرها ومستشفى النهضة لجراحات الانف والاذن والحنجرة والعيون والاسنان والامراض الجلدية ومستشفى ابن سينا للحالات العصبية والنفسية.

وفي غضون ذلك كله تحرص عمان على توفير مناخات مناسبة للانشطة الرياضية والنشطة الثقافية والعلمية والمهرجانات وتطوير الهيئلت الكشفية مما ينصب جميعه في النهاية بعملية تطوير قابليات الانسان العماني ورفع قدرته على المساهمة الفاعلة في عملية التنمية.

[الصورة المرفقة وردت من دون ذكر اسم صاحبها في الموقع الذي استعرتها منه، وهي لمشهد من عمان]

يتبع

تجربة سلطنة عمان التنموية… سياسات التعمين (3)

القسم الثالث.. علي المعموري

مدخل الديمقراطية والحكم الصالح:

في الواقع ان تجربة عمان في مسيرة التنمية تجعلنا نتسائل عما إذا كانت الديمقراطية شرطا اساسا في عملية التنمية؟.

فنظام الحكم في عمان لا يمكن بأي شكل من الاشكال ان يوصف بأنه ديمقراطي وفق المعايير الحديثة لتقييم الديمقراطية، فلا هو ملكي دستوري يملك فيه الملك ولا يحكم ولا هو بالذي يتصف بفصل السلطات فشخص السلطان هو الاسمى ومنه تنبع القرارات واليه تعود وهورمز وحدة البلاد وذاته مصونة وهو غير قابل للمسائلة او المساس ـ وهووما اشرنا اليه سابقا ـ وهو بأمر ملكي ـ أو نطق سامي ـ يسن التشريعات والقوانين ويلغي القوانين والتشريعات وهو الذي يضع المباديء الاساس التي تبنى على وفق معطياتها خطط التنمية وحتى النظام الاساسي للبلاد الذي منح السلطان هذه القداسة الدستورية لم يصدر الا سنة (1996) اي بعد (26) عام من الحكم المطلق بدون اي دستور او قانون يوضح طبيعة السلطة في عمان.

من جانب آخر فإن السلطة التشريعية التي تتمثل في الديمقراطيات الراسخة بالبرلمان والتي تكون اقوى السلطات لأن جميع مفاصل وسلطات الدولة الاخرى تكون مسؤلة امامها حتى هذه السلطة ويمثلها في عمان مجلس الشورى ليست فاعلة او تكاد؛ فمن حيث الاهمية هي تقع في المرتبة السادسة فيما يتربع السلطان على قمة الهرم ـ وهو  ترتيب ورد فيالنظام الاساسي للسلطنة ـ واعضائها يتم اختيارهم من قبل الشعب عبر ممثلين ثم يقوم السلطان بأختيار من سوف يدخل المجلس من الفائزين بالترشيح. ولكن اذا ما لاحظنا مستويات اللنجاح العمانية في المسيرة التنموية فسوف نعود الى التساؤل: هل ان الديمقراطية شرط اساس للتنمية ام لا؟ ام ان للخصوصية العمانية شأن آخر؟ شأن يندرح ضمن خصوصيات بلدان العام النامي والمجتمعات التقليدية بصورة عامة، تلك المجتمعات التي لا يمكن باي حال الانتقال بها مباشرة من حالة التخلف والركود والتقليدية الى ديمقراطية مفاجئة تدع للجميع وعلى السواء؛ المثقف المتعلم والجاهل والأمي يختارون شكل الحكم على هواهم تاركين لخلفياتهم العقائدية والمذهبية والعرقية ان تتحكم بهم وتسيرهم في عمليات التصويت واختيار الانظمة فيختار الطائفي ابن طائفته والتقليدي ابن عشيرته الى آخر هذه المصائب.

ولكن من جانب آخرف النسيج الاجتماعي العماني لا يشكل تنوعا حادا في التكوين وحتى على اختلاف الطوائف فيه فلا يوجد فروقات حادة ويكاد يكون مجمعا على شخص السلطان ولعل هذا ما وفر له ـ السلطان ـ الغطاء الكافي ليهيمن بشخصيته القوية على جميع نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية في البلاد وهو ما وفر له وحدة قرار مركزي سيطرت على التناقضات التي قد توجد في اي جهاز اداري ناشيء ضمن بلدان العالم النامي ـ مع ملاحظة ان الانتماء الى العائلة المالكة (البو سعيد) لا يعد شرطا اساسا للوصول الى المناصب العليا في السلطنة وهو ما يختلف عن الحال في بقية دول الخليج ـ هذا بالاضافة الى التجديد المستمر في الوجوه الي تمسك الادارات العليا كالوزارات وصعود قيادات شابة محل القديمة من ضمن الادارة نفسها بشكل مستمر لضمان تدفق الحيوية في عروق الدولة كل هذا جعل نسب الفساد الاداري تصل الى ادنى مستوياتها في عمان فقد صنف تقرير منظمة الشفافية للعام (2005) عمان كأول دولة عربية من حيث قلة الفساد الأداري، واحتلت المرتبة (29) على المستوى الدولي من بين (159) دولة اخرى شملها التقرير ولم تسبقها بالترتيب اي دولة عربية.

بالإضافة الى ذلك فقد منحت عمان الجائزة الكبرى للحرية الاقتصادية للعالم العربي التي يمنحها معهد فريزر الكندي ومؤسسة البحوث الدولية للعام(2005). وكذلك فإن تقرير البنك الدولي حول فعالية القانون ومؤشرات الحكم الجيد للعام (2004). وضع عمان فيمقدمة البلاد العربية وفي المرتبة (17) على المستوى الدولي من بين (127) دولة اخرى والذي صدر في (2005).

وإذا اردنا ان نقيم عمان من حيث مدى تمكنها من تطبيق مثلث الحكم الرشيد الذي يضم السلطة الواعية والقطاع الخاص المتفرد والمجتمع المدني الناشط فسنجد انها ومن حيث وجود السلطة الواعية فهي تمتلك هذه السلطة اما القطاع الخاص فقد بدأ ينشط ضمن توجه الحكومة نحو تنشيط القطاع الخاص إذ بدأت بتخصيص ـ لا يصح لغويا قول خصخصة ـ بعض  المؤسسات الخدمية التي تديرها الدولة مثل قطاعي الماء والكهرباء وتم التخطيط لأن يتولى القطاع الخاص نسبة (46%) من اجمالي استثمارت الخطة الخمسية السابعة (2006ـ2010).

وبالنسبة للمجتمع المدني المدني الناشط فلا يمكن ان تصنف عمان ضمن الدول ذات المجتمع المدني الناشط إذ لا يوجد فيها مثل هذه التنضيمات الفاعلة حقا وبالرغم من سماح قانون العمل ضمن التعديل بمرسوم سلطاني الذي صدر برقم 74/ 2006 بالرغم من سماحه بتشكيل نقابات ضمن ما يمكن ان يعتبر وجها من النشاطات اللاحكومية ضمن بنية المجتمع المدني فلا يمكن ان نجد اليوم نقابات قوية في عمان والجمعيات المدنية المسجلة رسميا لدى الحكومة والتي بلغ عددها سنة 2007 حوالي 66 جمعية ـ تشكل الجمعيات النسوية اغلبها (45 جمعية) وهو امر يستحق مزيدا من النظر ـ لا يوجد لها اي دور فاعل كمجتمع مدني ناشط يؤثر على الحكومة كما يتأثر بها.

وفي الواقع فإذا بدأنا الحديث ضمن مدخل الديمقراطية والحكم الصالح بتساؤل حول علاقة الديمقراطية بالتنمية وبينا انعدام اي ديمقراطية للنظام العماني الذي نجح في مسيرتها التنموية فإننا نعود هنا الى الاجابة عن السؤال بإقرار وجود الصلة ولكن نعيد القول بأن لعمان خصوصيتها بكونها دولة نامية من جهة وبكونها عمان من جهة اخرى؛ عمان التي تتمتع بخصوصيات تاريخية واجتماعية حتمت ان يكون نظامها على ما هو عليه.

ان الديمقراطية شرط اساس ـ ولا نقاش في ذلك ـ لتحقيق التنمية ولكن هذه الديمقراطية يجب ان لا تضخ بصورة مفاجئة في بلدان العالم النامي المتخلفة ويجب ان لا تستورد كآليات وقوالب قد لا تنتج الشكل الملائم محلياً بل يجب تطوير المناخات الديمقراطية ضمن خطوطها الرئيسة من حيث فصل السلطات واختيارها بواسطة الانتخاب مع مراعاة الخصوصيات الاجتماعية لكل بلد.

يتبع

[الصورة المرفقة وردت من دون ذكر اسم صاحبها في الموقع الذي استعرتها منه، وهي لمشهد من عمان]

تجربة سلطنة عمان التنموية… سياسات التعمين (2)

الفصل الثاني

تمهيد

في الواقع فإن مداخل التنمية تتعدد باختلاف اراء الكتاب الذين عملوا في دراسات هذا الحقل ـ كما سبق ذكره ـ ولكن على العموم هناك مداخل اساس يتفق عليها الجميع وهي تعد من اهم ضرورات عملية التنمية .

ولكي نقدم صورة ملموسة عن مدى نجاح عمان في عمليتها التنموية لابد ان نأخذ بعين الاهتمام هذه المداخل ونحن هنا سوف نتعرض الى بعض هذه المداخل الاساس اذ سوف نتناول التجربة العمانية ضمن ثلاث مداخل اساس هي :

1ـ مدخل التربية والتعليم والتعليم العالي .

2ـ مدخل الديمقراطية والحكم الصالح .

3ـ مدخل المرأة والطفل والخدمات الصحية .

وفي الواقع فإن تقديمنا لتجربة عمان التنموية وسياسات التعمين ضمن اطار هذه المداخل لايعني انها المداخل الوحيدة المناسبة لهذه التجربة. الا ان خصوصية التجربة ضمن  توجه البحث قد تستلزم هكذا نوع من التقسيم بالنسبة الى المداخل المؤدية الى دراستها.

وفي السطور القادمة سوف نبدأ باستعراض جهود عُمان ضمن هذه المداخل الثلاث واهم ما استطاعت  تحقيقه ضمن اطار التحديات التي تفرضها وسوف نحاول تقديم صورة عن مدى نجاح في كل منها ثم سيتم تقديم تقييم عام لتحديد تأثيرمدى النجاح في كل مدخل على الموضوعة الأساس وهي سياسات التعمين التي تعني قبل كل شيء تسليم الإدارات والأعمال في مختلف القطاعات والمستويات والإختصاصات الى الكفاءات الوطنية العمانية.

وهنا لابد أن نذكر أن مسيرة التنمية التي إبتدأت منذ سنة 1970 وهي سنة تولي قابوس بن سعيد الحكم في عمان قد ارتكزت منذ البدية على خطط تنموية مدروسة ضمن خطة استراتيجية طويلة المدى (1976ـ 1996) تخللتها خطط خمسية مدروسة ابتدات بالخطة الخمسية ألأولى (1976ـ 1980) ثم الستراتيجية طويلة المدى (1996ـ 2020) لتحديد المسارات والأدوات ولأهداف المراد تحقيقها اقتصاديا واجتماعيا على أمتداد المرحلة الثانية للتنمية الوطنية وقد أعتمدت ايضا اسلوب الخطط الخمسية لتحقيق اهدافها ضمن تدرج كان يراعي مدى توفر الطاقات الوطنية لتحقيق النجازات المطلوبة وقد (( وقد حققت هذه الخطة الطويلة الأمد اطارا كليا مستقرا للإقتصاد العمني ليتم تحقيقه والوصول اليه وبما يوفر معدلات نمو مستهدفة للإقتصاد العماني وتحسنامحسوبا في نصيب الفرد من الدخل القومي وذلك عبر تنويع مصادر الدخل القومي للسلطنة بزيادة مساهمات قطاعات الغاز الطبيعي والصناعة والسياحة والحد من الإعتماد الكلي على النفط مع تنمية القطاع الخاص وتنشيط سياسات التخصيص وتحقيق تنمية متطورة للموارد البشرية وجذب المزيد من الإستثمارات في اطار تنمية مستدامة تحقق مزيدا من الإندماج في الإقتصاد العالمي )) .

أولا: مدخل التربية والتعليم والتعليم العالي .

لقد أخذت عمان بالمبدأ القائل بأن الإنسان هو غاية التنمية ووسيلتها. وهو ما صرح به السلطان قابوس مرارا وتكرارا. وفي هذا الإطار عملت على ايجاد سياسة تعليمية وتربوية تضمن لها تطوير كفاءاتها الوطنية. وقد تميزت مسير التعليم العماني بالصبر حيث إنها بدأتمن الصفر لأجل اعداد كفاءات تعليمية عمانية. وفي هذا السياق قامت بتدرب الدورات المتعاقبة وتأهيله للتدريس من خلال التعاون المثمر والتنسيق بين وزارات التربية والتعليم والتعليم العالي والوزارات والهيئات الأخرى المعنية ؛ من اجل ان تتكامل الجهود فيما بينه اجميعا لإداد الخريجين على نحو يمكنهم من شق طريقهم في مراحل التعليم الأخرى أو الى سوق العمل وفقاَ لمتطلبات التنمية في الوقت الحاضر والمستقبل. وقد حرصت عمان من جانب آخر على تعليم من فاتهم قطار التعليم واخراجهم من ظلمات الأمية .

وفي الواقع فإن جهود تطوير التعليم وفق الناهج الحديثة المتجددة قد اصبحت سمة اساسية للتعليم في عمان. حيث انها اخذت بعين الاهتمام مسألة رفع كفاءة المعلمين من حيث تنويع اساليب تدريب الهيئة التعليمية داخليا وخارجيا بما في ذلك المشاغل التربوية وحلقات العمل والنقاش والابتعاث الى الخارج اضافة الى مشاريع اخرى اليكترونية متطورة مثل مشروع البوابة التعليمية الاليكترونية التي تظم كل عناصر المنظومة التعليمية وربطها معا بما في ذلك ديوان عام وزارة التربية والتعيم والمشروع التكاملي للانماء المهني والتدريب الاليكتروني والحقيبة المتلفزة وملف النمو المهني وهي تسهم في تطوير اداء المعلمين وتحقيق جودة التعليم وتوفير عمليات تدريب وتقييم متواصل لتطوير قدرات العاملين بما يفيد ويحقق اهداف العملية التعليمية بالاضافة الى ذلك يتم استخدام طرق تدريس حديثة واستخدام الحاسب الآلي والشبكة اللاسلكية الخاصة لربط المدارس على مستوى السلطنة لتزويدها بالمواد التعليمية اضافة الى تأسيس وحدة لإنتاج الوسائل المتعددة بوزارة التربية والتعليم.

وقد تم الغاء نظام التشعيب المتخلف الذي ورثته الدول العربية من عهد حكم اللورد كرومر لمر وحماقاته الكثيرة والذي  كان معمولا به في الصفين الحادي عشر والثاني عشر (الخامس والسادس الاعدادي) علمي/ادبي لاتحة الفرصة امام الطلاب لدراسة ما يتناسب مع ميولهم وتطلعاتهم.

وفي اطار عام يهدف الى العناية بالطلاب وتوفير اساليب تعليمية متطورة لتنمية مهاراتهم وتوجيه هذه المهارات بشكل صحيح وزيادة القدرات على التعلم الذاتي لمستحدث في عمان وكذلك نظام التقويم المستمر الذي الايعتمد على اسلوب الامتحانات فقط ولكنه يشمل كذلك المشاريع الطلابية والبحوث والاختبارات القصير والفصلية والملاحظات الصفية وغيرها.

الى جانب ذلك فقد تم تأسيس مدارس للتربية الخاصة لخدمة ذوي الاحتياجات الخاصة بشكل اكبر ولمعلجة صعوبات التعليم وكذلك مشروع الوفاء بمعهد عمر بن الخطاب للمكفوفين.

اما بالنسبة الى التعليم العالي فقد تأسست جامعة السلطان قابوس سنة (1986) وقد اريد لها ان (( تسيربخطى حثيثة ليس فقط لتطويروتحديث برامجها العلمية واستحداث برامج للتعليم والتدريب تخدم مختلف قطاعات المجتمع العماني وايضا لتصبح منارة فكر وصرحا متميزا للتعليم العالي قادر على اعداد الكوادر الوطنية المؤهلة وتشجيع البحث العلمي والاسهام الفعال في دراسة وانجاز خطط لتطوير المجتمع العماني وتعزيز جهوده التنموية  في  مختلف المجالات.)) وتضم جامعة قابوس سبع كليات تمنح درجات جامعية مختلفة بالاضافة الى مجموعة من المراكز البحثية وايضا توجد في عمان (14) كاية جامعية و(17) معهدا متخصصا بالاضافة الى (20) مؤسسة تعليمية تعليمية خاصة منها ثلاث جامعات اهلية وفي اطار الخطة الخمسية السابعة (2006ـ 2010) تم وضع استراتيجية للتعليم تقوم على خمس مرتكزات اساسية هي ادارة التعليم والتحاق الطلبة وتقدمهم عبر المراحل التعليمية وبناء الجودة في التعليم والبحث العلمي والتطوير وتمويل التعليم.

من جانب آخر يأخذ موضوع التدريب المهني حيزا مهما ضمن خططك التنمية فمن جانب تقوم معاهد التدريب التقني التي تشرف عليها وزارة القوى العاملة ـ وهو الامر الذي سوف نعود اليه لاحقا ـ تقوم بعملية تطوير مستمرة للتدريب التقني من خلال التعاون مع مجموعة من المنظمات العالمية مثل منظمة العمل الدولية والوكالة اليابانية للتعون الدولي والمؤسسة الهندسية البريطانية والمؤسسة الاسترالية للتدريب والمؤسسة الالمانية للتعاون الفني.

ان سياسة التطوير المستمر للتعليم مكنت عمان من امتلاك خبرات كافية تساعدها في مسعاها لتعمين الوظائف سواء في القطاع الحكومي ام في القطاع الخاص بالنسبة لحداثة التجربة التعليمية فقد تحققت طفرات هائل في التعليم فوجود هذا العدد من الكليات والمعاهد بالقياس الى المدة القصيرة التي بدأت بها التجربة يعد شيئل مذهلا وهو ما سنرى اثره على سياسة التعمين في التقييم العام.

ولكن هناك ملاحظات لابد من تسجيلها على مسيرة التعليم العماني؛ وبالاخص فيما يتعلق بالتعليم العالي.

فمسألة تعدد الجهات المشرفة على قطاعات التعليم تثير تساؤلات حول جدوى هذا التقسيم. فنحن نجد ان وزارة التعليم العالي تشرف على خمس من الكليات التخصصية وعلى كلية التربية بالرستاق وعلى شؤون البعثات ومؤسسات التعليم العالي الخاصة اضافة الى جامعة قابوس.

بينما تشرف وزارة القوى العاملة على الكلية التقنية العليا وكليات التقنية ومعاهد التدريب المهني وتشرف وزارة الصحة على المعاهد الصحية والبنك المركزي العماني يشرف على كلية الدراسات المصرفية والمالية ويتبع معهد العلوم الشرعية وزارة الاوقاف والشؤون الدينية وتتبع الاكاديمية العمانية للسياحة والضيافة وزارة السياحة.

ان هذا التشتت ـ ولانقول الفوضى ـ في تقسيم جهات الاشراف على التعليم العالي قد تؤدي فيما بعد الى مشاكل جمة واذا لم تظهر في الوقت الحاظر فما ذلك الا بسبب الاندفاعة القوية التي تسير بها عملية التنمية ككل من جهة وسيطرة جة مركزية على مفاصل الدولة ـ متمثلة بالسلطان ـ من جهة اخرى.

ففي حالة غياب جهة عليا مركزية موحدة تسيطر على رسم سياسات التعليم العالي وترسم الخطوط العامة للمسيرة التعليمية لايمكن ضمان المسيرة تعليمية متزنة بالرغم من ان التقسيم الذي اخذت به عمان يقوم على اساس ان مخرجات كل قسم يجب ان تكون متماشية من حيث تعليمها وتدريبها  مع الاحتياجات الفعلية للقطاعات المرتبطة بها وهو ما يسهل ـبحسب الادارة العمانية ـ استيعابها في دولاب العمل بعد تخرجها.

[الصورة المرفقة وردت من دون ذكر اسم صاحبها في الموقع الذي استعرتها منه، وهي لمشهد من عمان]

   تجربة سلطنة عمان التنموية… سياسات التعمين (1)

هذا التقرير كتب قبل 6 سنوات، وبقدر التقصير المعرفي الذي فيه، والأخطاء التي شابته بوصفه جهدا بسيطا لطالب في المرحلة الرابعة، فإني ـ بنفس الوقت ـ أحسب أيضا انه يلقي بعض من الضوء على تلك البقعة العجيبة لدرجة غريبة تماما عن مستنقع الشرق الأوسط (أو مستشفى الشرق الأوسط للأمراض العقلية) كما تقول صديقتي حبيبة محسن، سأنشر التقرير بحلقات دفعا للملل

علي عبد الهادي المعموري

 

اولا :النظام السياسي العماني

في الواقع ان تطبيق توصيف النظام السياسي وفق تعريفاته الاكاديمية الحديثة التي وضعها علماء السياسة واداءه لوظائفه الاربع على دول العالم النامي يعد امرا صعبا ومشكلا .

ففي نظام سياسي كالنظام العماني الذي يرتكزعلى اساس ملكية مطلقة محاطة بمظاهر دستورية ليست بالضرورة واقعية من حيث التطبيق. اذ ان عمليات النظام السياسي تكاد تكون متداخلة  مع بعضها البعض بمعنى غياب  الدور المتخصص وليس التداخل التفاعلي. وعمليات التغذية والتغذية العكسية تتم بشكل بدائي ولا تسير وفق اليات دستورية اوادارية محددة فكل شيء في الدولة ينبع من السلطان ويعود الى السلطان وفق تأطير شخصه باطار يرتكزالى مبادئ ابتكرتها وارستها الدول الاسلامية عبر تاريخها السياسي تتمحور حول (ولي الامر) وكونه يمثل السلطات الثلاث ـ بالتقسيم الحديث للسلطة ـ ووجوب طاعته والخضوع لارادته وكون ذاته مصونة. وغير قابل للمسائلة وهو امر ُشرع دستوريا في النظام الاساسي للحكم الذي صدر في نوفمبر (1996) وهو يهيمن على كل نوحي الحياة السياسية في البلاد منذ توليه الحكم عام  (1970 )ولهذا فان اي دراسة اكاديمية لاساليب النظام السياسي العماني لا يمكن ان تكون واقعية او دقيقة الا من خلال دراستها كأسلوب قائم بذاته من خلال دراسة سلوك السلطان كمؤسسة تنبع منها التشريعات وعلى عاتقها يقع تنفيذها .

وعلى العموم فالنظام السياسي العماني يتكون من البنى التالية مصنفة حسب الاهمية وفقا للنظام الاساسي للحكم في عمان :

1 ـ السلطان , متمثلا في شخص السلطان قابوس البو سعيدي .

2 ـ ديوان البلاط السلطاني .

3 ـ شؤون مكتب القصر .

4 ـ السلطة التنفيذية ؛ ويندرج تحتها :

أ  ـ رئيس الحكومة , السلطان قابوس .

ب ـ مجلس الوزراء .

ج ـ سكرتارية مجلس الوزراء .

5 ـ المجالس المتخصصة .

6 ـ مجلس الشورى. وهوالاسم الذي تفضل الدول التي تحكم على اساس ديني اسلامي ان تطلقه على البرلمان .

7 ـ المحافظات والولايات .

وعليه فإن الدراسة سوف لن تستهدف دراسة هيكلية النظام السياسي العماني او مدى تطوره واستمرار عملية التنمية السياسية فيه وفق الاساليب الحديثة وستنصب على اهمية التجربة التنموية على الجانبين الاقتصادي والاجتماعي مع التعرض للتنمية في المجال الاداري التي شهدتها السلطنة .

ثانيا :التنمية

ان دراسة التنمية تتطلب قبل كل شيء تحديد الجوانب التي بني المصطلح على اساسها , او بشكل ادق ان نحدد ما هو التخلف لنعرف التنمية. ولابد ان نذكر قبل ذلك ان دراسة التنمية حتى الستينات كانت تنصب على النمو الاجتماعي والاقتصادي وتأثيراته السياسية (وعبر ذلك تعالج الاسس الاجتماعية والاقتصادية لما كان يسمى  بالعالم الثالث) الى ان ظهر مصطلح التنمية السياسية بعد الستينات حيث اصبح البحث ينصب على هذا المعطى الاقتصادي  ـ الاجتماعي عبر دراسة عملية اكثر تعقيدا قد تكون هي الاساس وراء التطور الاجتماعي الاقتصادي وهي التنمية السياسية .

واذا عدنا الى محاولة تحديد مفهوم التخلف كي نصل الى معنى التنمية استنادا الى المقولة التي تبين ان الدول المتقدمة تؤشر الطريق للدول المتخلفة , فسنجد ان هناك اختلافا شديدا في تقديم مستوى معين من التقدم يقاس عليه التخلف .فالدول الغربية تقيس مستوى التقدم تبعا للديمقراطية والاستقرارحيث ان الديمقراطية وبصورة الديمقراطية الغربية التي تقوم على نظام تعدد الاحزاب السياسية والنظم الانتخابية والتمثيلية والاستقرارالسياسي الذي يؤدي الى انتشار التربية والتعليم بين السكان وارتفاع معدل الدخل الفردي او مستوى المعيشة. ولكن هذا الرأي يصطدم بعدد من التطبيقات المتناقضة ـ كما يرى الدكتور صادق الاسود ـ فمثلا فرنسا كنت تفتقر الى الاستقرار  السياسي في عهد الجمهورية الرابعة وتعد في نفس الوقت دولة متقدمة وغيرها من الامثلة الكثيرة .

من جانب آخر تنطلق الماركسية في تعريف التقدم والتخلف من ايديولوجية شاملة تستند الى عملية حركة المجتمع وفق مراحل على اساس الاقصاد اي من مرحلة البداوة والرعي الى الزراعة ثم الاقطاع فالراسمالية من بعدها الاشتراكية فالمشاعية. وكلم تقدمت الدولة في تسلسل حركتها التاريخية وفق هذه المراحل واقتربت من تحقيق المشاعية يقاس مدى تقدمها.

ولكن الدكتور صادق الاسود يرى ان المجتمعات البشرية لم تتكون في زمن واحد ولم تعش فتراتها التاريخية بخط متواز لذلك فإن مسيرة تطورها ليست متماثلة في جميع الاحوال فطفرت بعضها مراحل تاريخية معينة لاسباب تتعلق بمقوماتها الموضوعية وبمميزاتهاالذاتية وايضا ففي العصرالحديث تحاول بلدان العلم المتخلف تجاوز مرحلة الرأسمالية الى الاشراكية اي الانتقال من مرحلة الزراعة الى الاشتراكية بصورة مباشرة .

وفي الواقع فإن افضل رأي يمكن ان نأخذ به في هذا السياق هو رأي الدكتور صادق الاسود الذي طرحه في كتابه المهم علم الاجتماع السياسي حيث رأى ان جميع هذه الاساليب ـ هو قد اضاف في كتابه الى النظريتين السابقتين مدخلان آخران هما معيار العوامل المتعددة ومعيار المقارنة التاريخية وللمزيد من الاطلاع يمكن مراجعة كتابه ـ هو يرى ان جميع هذه الاساليب غير مرضية (( لأنها قائمة على معايير مبنية على قيم ومفاهيم غريبة على واقع هذه البلدان ـ النامية والمتخلفة ـ وعلى مسيرتها التاريخية نحو النمو والتطور .

ان دراسة الدول النامية يجب ان تنطلق من من وجهة نظرالدول النامية ذاتها وعبر المشاكل التي تواجهها مجتمعة او كلا على انفراد اذ يجب ان يؤخذ التخلف باعتباره واقع عاما وينطوي على عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية مترابطة فيما بينها ترابطا وثيقا وهذه النظرة العامة الشاملة هي التي يمكن ان تؤدي الى استنتاجات تذكر لانها تكون الحد الادنى من الاتفاق بين الباحثين من نختلف الاتجاهات والا فإن احدا لايمكن ان ينازع مثلا في ان الدولة التي لاتضمن سلامة مواطنيها وامنهم او تلك التي لاتوفر لهم ضروريات الحياة بحيث لاتقيهم من الجوع وتوفر لهم الملبس والمسكن تعتبر دولة متقدمة ))

عمان والتنمية

بالاستناد الى كل ماتقدم فإن عُمان تمتلك خصوصية في قياس مدى تقدمها فبالنسبة لمعيار الديمقراطية فإن عمان كما سبق ان ذكرنا لا تبنى النظام الديمقراطي وتدار من قبل نظام ملكي مطلق يملك السلطان فيه كل السلطات.

ولكنها من جانب آخر تتمتع باستقرار سياسي ضمن لها مسيرة تنموية ناجحة وسوف نرى فيما بعد ان خصوصية عُمان فيما يتعلق بحكمها المطلق لم تعرقل مسيرة التنمية فيها هذا ان لم تكن عاملا اساس في دفعها الى الامام محققة مستويات تعليم عالية ومستويات معيشية مرفهة لمعظم السكان.

[الصورة المرفقة وردت من دون ذكر اسم صاحبها في الموقع الذي استعرتها منه، وهي لمشهد من عمان]

 

المحكمة الدولية وقضايا الإرهاب عند د. حكمت شبر.. بين محاكمة القيم المتعالية وتفسيراتها المحايثة

مدخل

لعل من نافلة القول ما صار للإرهاب من مساحة واسعة الحضور في الحياة الإنسانية، بعد أن ضربها في صميمها بمواضع كثيرة من المعمورة، حتى صار الشغل الشاغل للدول، والباحثين، ممن يحاولون فهم أصوله ومساربه، بحثا عن آليات مكافحته وإيقاف تمدده الخطر، فضلا عن تأثيره المباشر على حياة البشر الذين يضرب أراضيهم، وتداعياته الجسيمة على الحياة والتنمية ومستقبل الجنس البشري عموما.

وما يطرحه د. حكمت شبر في كتابه (المحكمة الدولية وقضايا الإرهاب.. العراق نموذجا) ــ الصادر عن دار العارف 2011 ــ وإن كان يعد جزءا من ذلك الاهتمام البحثي الدولي بهذا الشأن، إلا إن له ما يميزه في بابه ويمنحه فرادة في غاية الأهمية.

فالكتاب وإن تناول تطور قواعد القانون الدولي وما ترتب عليها من وظائف والتزامات قانونية، وما حدث من تطور في عمل المحكمة الدولية والمعاهدات الناظمة لها والمنطوية ضمن متونها القانونية، إلا أنه لم يقف عند هذا الحد المتعلق بالنص القانوني وتطوره، متجاوزا البحث في النصوص إلى تتبع منابعها الفقهية، ساعيا إلى تأصيل قواعد تتبع أصل الجريمة الإرهابية، وتعرية التعامل المزدوج مع المصطلح الواسع الذي حرصت الدول الكبرى على المتاجرة به عبر تعويمه، وإسباغ سعة نسبية عليه جعلت منه أداة من أدوات الاستراتيجية للدول الكبرى، بدلا من أن يكون جريمة واضحة المعالم تتيح معاقبة مرتكبها، وتتبع جذورها للقضاء عليها.

و أحسب ــ في الواقع ــ أنني لن أكون موّفقا إذا حاولت قراءة ــ  أو نقل ــ وجهة نظر سليمة عن موضوعة الفقه القانوني وتطور قواعده فيما يخص القانون الدولي الواردة في الكتاب في هذه العجالة، لاسيّما انها ليست من صميم تخصصي، ولكن الأمر المميز بهذا الكتاب والذي يمنح قارئه هدية كبرى هي ارتكازه على مجموعة من الحقول البحثية العلمية التي تتيح الاستفادة من عدة مقتربات في ذات الوقت، بين القانون والسياسة والفلسفة والاقتصاد.

رغم ذلك، فمن المهم جدا الإشارة إلى مذهب الدكتور حكمت شبر في طبيعة القانون الدولي، التي تتجاوز المذاهب المجردة التي تتعامل معه بوجه نظر أيديولوجية قاسية، متأثرة بالظروف الدولية الحرجة التي نشأت ضمنها قواعد القانون الدولي، والتي خضعت بدرجة كبيرة إلى مصالح الدول الكبرى، وطبيعة صراع المصالح بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.

الصراع الذي قاد لأن تعرقل عملية نشوء قواعد عادلة، تنصرف إلى علاج مشاكل العالم المختلفة، مما صار يشغل الرأي العالمي اليوم، كالتلوث، والتصحر، وعلاقة ذلك بالاحتباس الحراري، وهي أمور وقفت مصالح الدول الكبرى كعقبة في سبيل تغطيتها من قبل القانون الدولي ((لأن قواعده تعبر عن التنسيق بين المصالح المتناقضة وليس على الفرض القسري المدعوم بقوة الأجهزة التي نراها في القوانين الداخلية، لذا فأرى أن القانون الدولي هو قانون تنسيق بين مصالح الدول وليس قانون فرض على الدول وفي مثل هذه الظروف الموضوعية والتاريخية غير المواتية لتطوير قواعد تقدمية تخدم الإنسانية، نشأت وتطورت القواعد الخاصة بالمحاكم الجنائية الدولية، التي كانت وما زالت ضعيفة لا تلبي مصالح الشعوب في السلم والأمن والحماية من العدوان)).

وهذا الرأي يوّضح بدرجة كبيرة مدى خضوع القواعد الدولية التي يتعلق بعضها بقضايا الإرهاب لمزاج الدول الكبرى، ومدى رغبتها بالالتزام بروح النصوص القانونية، أو تفسيرها بمزاجها، والكيل بمكيالين، خصوصا اننا نتعامل مع منظومة سلوك جرمي أساسه فكري، ومحاكمته ستتطلب بطريقة أو بأخرى العودة إلى الجذور القيمية المؤسسة للإرهاب القادم من العالم الإسلامي، وبثوب يراد له أن يوصف بأنه الإسلام.

ولهذا، فإن ما أود حقا أن أركز عليه بعجالة قد تكون مخلة ــ حرصا على أن تلزم القارئ بالاستزادة من الكتاب نفسه ــ هو ما تضمنه الفصل الأول من الكتاب، الذي انصرف إلى تقديم تمييز دقيق بين الإرهاب والإسلام، وتتبع التراث القرآني والحديثي بما يتيح درء التهمة التي يحاول البعض إلصاقها بالاسلام وتحميله مسؤولية الإرهاب كاملة، بتجاهل تام لقاعدة أساسية في البحث العلمي والتفكير الفلسفي بشأن الأديان بوصفها قيما جمعية، وهو انقسام هذا العنوان الواسع ـ الدين ـ إلى نص متعالي يتضمن ـ في الحالة الإسلامية ـ القرآن الكريم الذي كان بصورة عامة مجملاً، حمّال أوجه، والنص المحايث الذي يتضمن بدوره التراث الإنساني المفسِّر للنص المحايث، وقد يكون حديثا نبويا أو اجتهادا فقهيا، أو تأويلا سياسيا اتخذ من النص المتعالي وسيلة للوصول إلى السلطة الدنيوية المتناقضة بطبيعتها مع المثالية التي ينطوي عليها النص المتعالي، وهو ما سأحاول إمساكه في كتاب د. حكمت شبّر ضمن العناوين التالية.

أولا: تاريخية التطرف، وامتداده المعاصر، بين الحكام المسلمين، والمخابرات الدولية.

يتساءل د. شبر في مقدمة الفصل المعني قائلا: (كيف تمكن أعداء الإسلام من حكومات وإرهابيين من استخدام الإسلام لترهيب مختلف الشعوب والدول في العالم؟ هذا الدين المعروف بسماحته وتكريسه المحبة والوئام بين بني البشر)، مستدلا بالآية الكريمة ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) .

وهو يعود بقارئه إلى التاريخ الإسلامي، متتبعا الطريقة البشعة التي استخدم بها حكام الدول الإسلامية المبكرة الإسلام بطريقة تنافي روحه، مشخصا مسؤولية الفقهاء الذين ((خدموا العروش)) وعملوا على لَيّ النصوص لإصدار فتاوى تمنح العروش شرعية مقدسة، وهو ما شكل استنزافا خطيرا جرّد قدسية الفكرة المتعالية، ومنحها للدولة المحايثة، الدولة التي صارت تستخدم الإسلام لتبرير بطشها، وحمايته بتابوهات ابتكرها الفقهاء، وأسسوا بها للاستبداد والإرهاب الإسلامي.

كما لا يفوته التعرض لاستخدام القوى الكبرى اليوم لذات التراث المأزوم، وعمل الولايات المتحدة على استخدام التراث الإسلامي المتطرف والنصوص المؤسسة له في حربها الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق، ويذكر في هذا الموضع المؤتمر الذي أقامته الولايات المتحدة بعنوان المثل العليا في الاسلام في مدينة بحمدون اللبنانية عام 1954، ودعوتها للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء للاشتراك بالمؤتمر، ولكن الشيخ فهم اللعبة؛ وتصدى للمؤتمر ومن يقف خلفه بذكاء، وأصدر رسالته المعروفة (المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون)، التي عرّى فيها النوايا الأمريكية، وإرهابها، وكيلها بمكيالين.

وبالرغم من أن المؤلف تعرض لنماذج من رجال الدين المتطرفين في العصر الحديث، وبيّن أثرهم الضار على الإسلام واستخدامهم للنصوص بعدوانية أولدت تفسيرات تبيح القتل والمجازر القائمة على مزيج من النص المتطرف والقيم البدوية، بدعم من السعودية التي نشرت التفسير الوهابي المتطرف في العالم مستغلة الثروة التي تمتلكها، بالرغم من ذلك، فقد حرص على أن يتناول نماذج مشرقة تقف بالضد من هؤلاء، من الذي قارعوا الاستعمار، وحرصوا على فهم مقاصد الدين، وربط النصوص بروحها وفكرتها، لا بتاريخيتها، وهو ما سيتضح في الفقرة التالية.

ثانيا: تنزيه المتعالي وتحديد الغرض منه ـ روح النص ـ

يقدم المؤلف في هذا الجانب ملاحظات فائقة الأهمية، أولها الإشارة إلى أن (الأصولية الاسلامية) التي لا تعترف بأي وجود للآخر، سواء كان مسلما مختلفا معها بالمذهب، أو من دين مختلف تتحرك في فهمها هذا من أسس باطلة ولا تنتمي إلى الإسلام الحقيقي.

هذا الإلغاء الديني الذي لم يقتصر على الفرق الإسلامية المخالفة لها وحسب، وهو ما قد يجد مبررا فقهيا له في تراث مأزوم، بعكس النصوص الواضحة التي حددت كيفية التعامل مع أهل الكتاب من الديانات السماوية الأخرى بالحسنى والاحترام، وهو ما تطرق له حريصا على أن لا يفوته التأكيد على خصيصة تتعلق بالمجتمعات الشرقية، والعربية منها بوجه خاص، وهو استحالة الفصل بين ((ما هو مسيحي عما هو إسلامي في تكويننا)) مشددا على الامتزاج الشديد للعنوانين في نفوس شعوب المنطقة.

ولكي يقدم تأصيلا لمنبع هذه الفكرة، ويتتبع جذرها الذي حرّض على هذه الإقصائية؛ فإنه هنا يتلمس ما للبيئة الصحراوية القاسية من أثر أنتج هذا التفسير الإقصائي، مستحضرا نصوصا تاريخية لمن عاصر حقبة مظلمة من تأسيس الدولة السعودية الحاضرة، عبر ذكره لما كتبه أمين الريحاني، وما سبقه من مجازر وقعت في نجد والحجاز والعراق على أيديهم بعقلية الغزو والسلب البدوية، وهي القيم المحايثة التي أسبغها التفسير الوهابي المتطرف على النص المتعالي الإسلامي.

وللتدليل على هذا، يذكر مجموعة من النصوص القرآنية التي تعزز فكرته التي طرحها قائلا: ((إن الأعمال الإجرامية التي ارتكبها وما يزال يرتكبها التكفيريون لا مكان لها في الشريعة والدين الإسلامي فقد جاء هذا الدين الحنيف لإصلاح البشر ونشر الحب والتآلف بين مختلف الشعوب))، ثم يسترسل بذكر آيات كريمة تحرّم القتل، كقوله تعالى: (مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) كما يتلمس ما جاء به الدين المحمدي من تأكيد على حرية المعتقد، كقوله تعالى (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ).

وبالجملة فإن الفكرة التي جعلتها عنوانا لهذه الفقرة ظاهرة جدا في هذا الفصل، وازعم ان د. شبّر قد تميّز في إظهارها، ونجح في الفصل بين المتعالي المقدس، والمحايث الملتبس، مما يؤسس لإمكانية محاكمة الأصل السيئ للإرهاب كفكرة دون المساس بصميم الدين الإسلامي.

 ثالثا: الفصل بين التطبيق التاريخي والحكم المتعالي.

يفنّد في هذا السياق مُسَلّمة أساسية تستهلكها الجماعات الإرهابية المتلبسة بالإسلام، كما تستخدمها القوى الدولية في استراتيجيتها التفتيتية في المنطقة، ومهاجمو الاسلام، كلهم ـ ويا للغرابة! ـ على حد سواء، أعني بها آيات السيف.

حيث يذهب د. شبّر إلى أنه ((ليس هناك آيات سيف كما يدعون، بل آيات تبيح؛ أو تدعوا إلى قتال مشركي مكة، الذين كان المسلمون قد دخلوا معهم في حرب مضطرين تحت تهديد التصفية بالقتل، بعد أن طُردوا من ديارهم ومن بينهم الرسول (ص)))، ويشدد على أن الحروب التي خاضها المسلمون زمن الرسول كانت حروب دفاع عن النفس، لا حروب عدوان، ويستدل على هذا بالطريقة السلمية التي فتحت بها مكة لاحقا، والتي كانت خالية من روح الانتقام، ويتذكر القارئ في هذا الموضع ما سبق أن مهد له المؤلف وتناولناه في هذه السطور تحت عنوان تاريخية التطرف، حيث ينزّه المؤلف عصر الوحي من الوحشية التي تلت انقطاعه بوفاة الرسول، أي خضوع النص المتعالي إلى التفسير المحايث، وهو ما ولّد هذه الكوارث.

ويستطرد هنا ليبين ان القرآن الكريم أناط عقوبة الكفر بالله بالحساب الأخروي، ولم يتح للمسلمين ان يمارسوا هذا الدور في الحياة الدنيا كما يزعم التكفيريون، كقوله تعالى: (كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ).

ويستخلص القارئ في النهاية أن محاولة هذه الجماعات المتوحشة الادعاء بأنها تطبق حكم الله، لا يعدو كونه اعتداءا على حرمات الله، وما خصّ به نفسه من إيقاع العقوبات على خلقه، وان سلوكياتها تنافي الكثير من النصوص الصريحة فضلا عن جوهر الدين، وما جاء به من أحكام سمحة همها الحياة والإنسان بالدرجة الأولى.

خاتمة

إن أي جهد لإيجاد قواعد قانونية تستند عليها المحكمة الدولية في علاج موضوع شائك عسير المسارب مثل الإرهاب لابد ان يأخذ بحسبانه العودة إلى جذر المشكلة، وتتبع الأصول الفكرية المؤسسة لها، والتي تعتمد الأفكار الإرهابية على سردياتها التاريخية، وفيما يخص الإرهاب الذي تمارسه منظمات إسلامية متطرفة فإن الأمر يتعلق بدرجة كبيرة بمراجعة النصوص الإسلامية، والفصل بينها وبين الإسلام بوصفه منظومة قيمية؛ يراد بها سعادة الانسان وحفظ حياته بالدرجة الأولى، وأن أي تفسير للمجمل الغامض من تلك النصوص لابد ان ينطلق من هذه الفكرة تحديدا، والتفسيرات المتوحشة لا تعود للإسلام، ويجب الفصل بينها وبينه، واستخدام ذات النصوص المتعالية السمحة لمحاكمة تلك التفسيرات الباطلة.

وهذا ما أجد أن الدكتور حكمت شبر جهد أن يبحثه في هذا الكتاب، وعرضه بصورة علمية رشيقة تفيد القارئ الراغب بفهم حقيقة ما يدور في المنطقة بيسر، والباحث المتعمق بالبحث عن جذور المشاكل لإيجاد حلول لها معا.

(مراجعة كتبت لتكون ضمن الكتاب التذكاري الذي سيصدر عن أ. د. حكمت شبر، أستاذ القانون الدولي في الجامعات العراقية، والأستاذ الزائر في جامعة كامبريدج)

مشهد عرضي من شتات متخيل

كنت مذهولا، وكانت قامتها تتلاشى أمامي في الممر، تنسحب وئيدة بخطوها الرشيق، رغم ان هناك صراعا عميقا بداخلها بين التراجع أو المضي قدما قد بدا واضحا على ساقيها المرتحلتين، كان حضورها يبهت في عيني، ويتجذر في قلبي عميقا.

صوت وقع أقدامها كان يختلط بالضوء المنهمر من النوافذ؛ ببقية من ضوء أصفر علقت بمصابيح السقف، بينما تسرب حفيف شتلات زهر البنفسج تحتك ببعضها في الشرفة، مطلقة عطرا يتخلل المكان عبر فتحة صغيرة في الشباك، لتزيد في حراجة موقفي البائس ـ كنت أقول لها: لا أجيد العناية بالزهور، انا ابن العاقول والخُبّاز، فتضحك ساخرة ولا تزيد، كأنها تقول لي: وهل انت مؤهل للبنفسج، انهن لي، انا ابنة الربيع والزهر ـ شعرت أن للضوء رائحة، وأنه يحرص على أن يصلني عبيرها وهي تنسحب، بذات القوة وذات العنف، بل ان ذلك العبق المبهم كان يزداد حدة كلما ابتعدت صاحبته خطوة عني، حتى توقفتُ عن تلمس عطرها بحاسة الشم، وصرت أحسه بكل مسامي، يتسرب فيّ، رويدا مع الضوء، مختلط بأصوات السيارات المندفعة خارجا، تطلق أزيز محركاتها، كأنها تؤذنني بشكل حياتي القادم من دون هذه الراحلة، نفير لا يهدأ من الوحشة، ووجع جديد يصل المواجع القديمة ويزيدها حدة، كان المشهد يعتصر روحي، رغم كل البهاء الذي يلفه، رغم ما صنعته الأمواج الذهبية التي تتوج رأسها في روحي، وهي تتمايل منكسرة عني، يلفها الضوء ورائحة البنفسج.

ـ أنت تحب الخسارة، لا اعرف كيف أكون جزءا من خساراتك المحبوبة إلا بهذه الطريقة.

لا أدري كيف استطاعت الفتاة المرحة، الممتلئة بالحياة ان تجد تلك الجثة المدفونة عميقا بروحي، المتوارية تحت ركام آلاف السنوات من التجارب العراقية المعمّدة بالخسارة، المتوضئة بالفقدان، مطمورة عميقاً في ذاتي المنهكة حتى لم أعد أتبينها، رغم انها تظهر في كل سلوك أسلكه، تجاهلت وجودها المتحكم بوجودي، حتى اقتنصتها البنت الأوربية اقتناصا، مبددة الركام عنها، بعد أن كبحتُها عن تبديد العتمة التي تلف أيامي، رغم شراسة الضوء في روحها السعيدة، التي قال عنها النواب:

يلي ما جاسك فكر بالليل

ما جاسك سهر

غادرتْ، لم تترك الباب مفتوحا كما يجدر بأي راحل ساخط، حرصت على إيصاده برفق، لأنها تعرف أنني أخاف الابواب المفتوحة، تسلبني راحتي وطمأنينتي السريعة العطب، ومع آخر نغمة منبعثة من تلاشي خفق حذائها على الأرض، صحوت من ذهولي، لقد ذهبت، أما أنا، فبقيتُ كنخلة ذاوية، هربت من طينتها لأديم غريب، فشل في احتضانها رغم حنانه وينعه، غادرتها المياه، وجفاها الفلاح، أتلفتُ، أبحث عني وسط هذا الظلام العراقي المغترب، فلا أجد سوى العطب والسخام.

15/ 8/ 2015

اللوحة لـ (tzviatko kinchev)

 

Jupiter Ascending

نادرا ما يجد المرء في فيلم إثارة مليء بالرصاص والأشلاء المتناثرة دعوة للتأمل والتفكير، وهذا الفيلم ـ برأيي ـ قد يكون من هذه الأفلام.

إذ بقدر ما يتضمن من إشارة إلى ما تتعرض له القيم من استنزاف وتخريب بسبب عامل البحث عن الربح بأي ثمن ـ وهو الميكانزم الأساس الذي تنطوي عليه الرأسمالية ـ فإنه بذات الوقت يبعث رسالة مفادها أن كونك جزء من نظام رأسمالي، أمريكي بالخصوص، يوفر لك عملا مهما كان حقيرا وقائم على الاستغلال فإنك رابح، لأنك لست جزء من الأنظمة الدكتاتورية ـ بالمعيار الأمريكي ـ والتي لن تضمن سلامتك فيها على الاطلاق، أي أنه يمنحك قيما بديلة عن تلك التي تحدث عن استنزافها، أنها طريقة القديمة في إظهار ما تزعم انه إيجابي في شيء ما، عبر شتمه.

يفتتح الفيلم بالحديث عن قصة حب روسية بريطانية، تنتهي في الدقائق الأولى منه بمقتل الزوج ـ ابن الدبلوماسي البريطاني ـ في هجوم عصابة على منزلهم، الغريب ان العصابة ترتدي زيا موحدا، وتبدو مجهزة بتجهيزات وحدة عسكرية حكومية، تسرق المنزل، وتأخذ أعزّ ما يملك الزوج، تلسكوبه، أو لنقل أمله في التحرر وتطلعه نحو الحرية، وما أن يحاول التمسك به، حتى يقتله فرد من العصابة بكل برود، الهراء الأمريكي الهوليودي التقليدي حول روسيا والشرق عموما، وقد بدا مبتذلا فعلا تقديم العصابة وكأنها وحدة عسكرية حكومية، ببزات موحدة، واقتحام منظم كما تنفذه وحدات التدخل السريع النظامية  عادة.

أما الزوجة الروسية فتقرر بعدها الهرب من وطنها الذي سلبها زوجها، الهرب إلى الولايات المتحدة ـ بالتحديد! ـ وتلد ابنتها جوبيتر=المشتري [تؤدي دورها  Mila Kunis] في عرض البحر في حاوية لنقل البضائع، وبعد وصول الأسرة الصغيرة إلى مقصدها تبدأ بالعمل عند شقيق الأم، متعهد تنظيف المنازل، الذي يصر على أن تتحدث أسرته الانجليزية لا غيرها في المنزل، وفي ذات الوقت يثقل عليهم بالعمل، ويشيع روح منافسة شرسة بين أفراد الأسرة ـ فعل أمريكي تقليدي ـ ويتكرر أكثر من مرة مشهد جوبيتر وهي تهمس أثناء إيقاظ أمها لها فجرا (أنا أكره حياتي)، ويتكرر مشهد تنظيفها للمراحيض، الصورة الافتتاحية القاتمة لأي هارب أو مهاجر غير شرعي.

ولكن مهلا، انها امريكا، أرض الفرص، ولا أحد يعرف ما الذي يمكن أن يحدث له فيها، فقد تنام فتاة ليلتها وهي مجرد مهاجرة غير شرعية، لتستيقظ وهي ملكة الأرض ومالكتها!

في هذه الأرض الجديدة، تستمر رتابة حياة جوبيتر ـ التي ولدت بطريقة استثنائية ـ حتى يقبض ابن خالها من جهة مجهولة مبلغ لدفع ابنة عمته للتبرع ببيوضاتها مقابل مبلغ من المال، وتقتنع الفتاة بالأمر لتتمكن من شراء تلسكوب، ويتبين لاحقا أن هناك من يتتبع البنت، قوى خارجية، من خارج كوكب الأرض، وتدريجيا يكتشف المشاهد ان هذا الكوكب ما هو إلا مزرعة يستعد هؤلاء الغرباء لحصد سكانه، مستخلصين مادة الحياة اللازمة للخلود من أجسادهم، ويستثمر الفيلم في ذات الوقت فكرة التناسخ الفلسفية بإطار علمي، لنعرف ان جوبيتر تمثل إعادة ظهور جيني لأم لثلاثة من أمراء هؤلاء الأغراب (آل ابراساكس Abrasax) الذين يتحكمون بتجارة أعادة الحياة هذه، وأن ابنها الأكبر (Balem [يؤدي الدور Eddie Redmayne]) وهو الأثرى بينهم هو وريث الأرض، وانه يستعد لحصادها، لولا إعادة الظهور الجيني المفاجئ لأمه، التي تسبب هو بموتها من الأساس.

وسنجد شخصية (Caine Wise [يؤدي دوره Channing Tatum]) الذي يمثل نتاجا خالصا للعلم، مقاتل مهجن جينيا بين الذئب والانسان، ليكون جندي مطيع للأوامر، مقاتل عنيد لا يلين، منشق على قيم الطاعة التي زرعت في جيناته، تارك للخدمة بسبب اعتداءه على أحد النبلاء، ليظهر في لحظة خاطفة وينقذ جوبيتر من موت محقق، بعد أن استأجره الأبن الأوسط لآل ابراساكس (Titus [يؤدي دوره Douglas Booth] لإحضار جوبيتر، ومرة أخرى، سنجد التأكيد على موضوعة العلاقة بين العلم والانسان، بوصفها المزيج الذي به تقوم الحياة وتتكامل.

يقول الابن الأكبر، (بليم) لجوبيتر بعد أن أسرها جنوده: (الحياة هي فعل استهلاك يا جوبيتر، لتعيشي يجب ان تستهلكي، البشر على كوكبك مجرد مصدر للمنفعة، بانتظار تحويلهم إلى رأسمال) وبعد أن يشير إلى (المصفاة البشرية) العملاقة التي يقفون بها، يقول لها (ما تشاهدينه هنا هو جزء بسيط من آلة كبيرة وجميلة تعرف بالتطور، وهي مصممة لغرض واحد فقط: جني الربح)، كم هو غريب اختصاره لفلسفة الرأسمالية المجردة بهذه الكلمات البسيطة، بينما مهدت أخته (Kalique [تؤدي الدور Tuppence Middleton]) لذات الفكرة بالقول لجوبيتر (ان البشر يتقاتلون لأجل الموارد كالنفط وغيره من المعادن، أو الأرض ولكن بالوصول للفضاء، ستدركين ان هناك مصدر وحيد يستحق القتال من أجله، هو الوقت، المزيد من الوقت، الوقت هو أثمن شيء في الكون)، بعبارة أخرى هي تتحدث عن الخلود، الذي يتم باستنزاف أجساد البشر، بمعاملتهم كحيوانات.

إن الضرب على فكرة المنفعة المجردة من الأخلاقيات أمر غريب حقا في فيلم إثارة أمريكي، ورغم انه ينتهي بطريقة أمريكية مسرحية بالغة، بعد أن تبدأ جوبيتر بمحبة وظيفتها، تستيقظ مبكرة، تنظف المراحيض وهي مبتسمة، سعيدة وسط عائلتها، ثم تجلس على قمة ناطحة سحاب، الرمز الأمريكي التقليدي، لديها حبيب، هو ذلك النصف ذئب، أنها عاملة مهاجرة، لكنها تمتلك الأرض، لأن أمريكا تمنح لك ما لا يمنحه الآخرون، رغم ذلك كله، أحسب أن رسالة جيدة بعثت في ثنايا الفيلم، انتقدت البحث المجرد عن النفع دون قيم أخلاقية، ودون إقامة وزن لحياة الانسان.

سكتُّ عن ذكر الكثير من الوقائع التي تعزز فكرتي، حرصا على أن لا أحرق أحداث الفيلم، مشاهدة ممتعة.

Imdb

ارنستو تشي جيفارا

ولد ارنستو تشي جيفارا دي لا سيرانا، أو (تشي) كما يعرف مجردا في روزاريو/الارجنتين يوم 14 حزيران 1928، وتخرج من كلية الطب ليبدا سنة 1952 رحلته الشهيرة على الدراجة النارية ويشاهد مآسي أمريكا اللاتينية، المآسي التي حمّل الولايات المتحدة مسؤولية وقوعها.

وبالرغم من انخراطه المبكر في النشاط السياسي، واندماجه شيئا فشيئا بالحركات الراديكالية خصوصاً بعد أن اطاحت المخابرات المركزية الامريكية بحكومة خاكومو اربينيز المنتخبة في غواتيمالا وهروبه إلى المكسيك على أثرها، بالرغم من هذا النشاط، إلا أن نقطة التحول الحقيقية في حياة (تشي) السياسية كانت لقاؤه في تموز 1955 بجماعة كوبية يتزعمها معارض كوبي اسمه فيدل كاسترو.

انخرط جيفارا بعدها في حرب ثورية أطاحت بالنهاية بالدكتاتور الكوبي ورجل الولايات المتحدة بانيستا، وبعد توليه منصبا وزاريا في الحكومة الجديدة لمدة ترك السلطة وعاد لحمل السلاح في بوليفيا، وأسرته القوات الحكومية الموالية لواشنطن، وقتل سنة 1967 ولم يظهر جثمانه حتى العام 1997، حيث أعيد إلى كوبا.

وفي حقيقة الأمر، فإن جيفارا لم يكن منظراً ماركسيا كبيرا، ولم يكن مفكرا من الطراز الآيديولوجي البحت، ولم يترك وراءه كتابات ذات مستوى عال من التنظير السياسي، كان الرجل ببساطة ثائراً ينتمي إلى الانسانية برمتها دون تفاصيل أو حدود، وكان همه الأساس هو افتداء الانسانية من الشر المتمثل بالولايات المتحدة الامريكية، على هذا عاش، وعليه مات.

ومقولته الشهيرة ((إني احس على وجهي بألم كل صفعة توجه إلى مظلوم في العالم فأينما وجد الظلم فذلك موطني)) تلخص فلسفته السياسية وآراءه الثورية، وكان يؤمن بمبدأ البؤرة الثورية ودور الفرد في التغيير التاريخي، كان يرى أن الفرد عندما يقوم بواجبه تجاه الانسانية فسوف يجد من يسانده، وتتوسع البؤرة الثورية وتكبر شيئا فشيئاً.

وبالرغم من كونه شيوعيا، إلا انه اصطدم بالنهاية بالفرق بين النظرية والتطبيق، يقول أ. محمد حسنين هيكل في كتابه (عبد الناصر والعالم/ ص458 ط الأولى) وهو يتحدث عن زيارة جيفارا إلى مصر ان الاسئلة الناتجة عن خيبة الأمر كانت تصطخب في صدر الرجل، وكان يسأل: ((من هو الشيوعي؟ ما هو دور الحزب؟ هل الشيوعي مجرد ملحد؟ هل يتعين على الشيوعي ان يعمل أكثر من الآخرين؟ لقد قلت ذات يوم ان على الشيوعي أن يكون آخر من يأكل وآخر من ينام وأول من يستيقظ، لكني تبينت ان ما قلته هو وصف لعامل جيد وليس لشيوعي جيد)).

((من يسن القوانين؟ ما هي العلاقة بين الحزب والدولة؟ وبين الثورة والناس؟ حتى يومنا هذا ظلت العلاقة تدار بانتقال الافكار واستقراءها تلقائياً لكن هذه الطريقة لم تعد كافية)).

((لقد كُلفّت بمهمة الاشراف على التحول الاجتماعي وكان المشكل الأول الذي واجهته هو إيجاد الاشخاص الذين يمكنهم أن يديروا المؤسسات المؤممة، ثم وجدناهم وظننا انهم سيكونون ممثلين للثورة، فاكتشفنا انهم لا ينتمون إلى الحزب الثوري إنما إلى الحزب الإداري… وأخذوا يغلقون مكاتبهم في وجوه الناس للحفاظ على الهواء المكيف بدلاً من أن يفتحوها لاستقبال العمال… إني شيوعي، وقد قرأت القدر الكثير من الكتب الشيوعية، واصبحت معذبا مشتتا بين الثورة والدولة)).

ان فلسفة جيفارا الثورية تتلخص فيما قاله ذات يوم: ((إن نقطة التحول في حياة كل انسان تحل في اللحظة التي يقرر ان يواجه الموت، فإذا قرر ان يجابه الموت يكون بطلاً سواء نجح أم أخفق، إن في وسع الانسان أن يكون سياسيا صالحا أو رديئا، ولكن إذا كان لا يستطيع ان يواجه الموت فإنه لن يكون أكثر من مجرد رجل سياسي)).

تلك العقيدة التي عاشها جيفارا، ومات من أجلها كما قال أ. هيكل.

موقع آخر في Arablog