أرشيفات التصنيف: غير مصنف

من مآسي المترجمين وحمولاتها السياسية العرضية

يوقع المترجمون القراء في مطبات كثيرة، منها تَعَوُّد ذاكرتهم على كلمة معينة، تصبح “تابو” وقاعدة مقدسة تصبح مخالفتها خطأ، مع العلم أنها ليست من العربية، ولا توجد حدود معينة أو قاعدة نحوية لها.
على سبيل المثال، ترجم الشاعر الكبير خليل مطران ـ الملقب بشاعر القطرين ـ مسرحية لشكسبير، واختار أن يكون اسم بطلها بالعربي “عُطيل” ولا توجد قاعدة استند عليها هذا الضليع بالعربية الفصيح ليحول اسم “أثيلو” أو “أتيلو” الى عطيل، مستنتجا أنه كان عبدا لسواد بشرته، والعبد عاطل عن الحلية والزينة، اليوم تعال أقنع القراء العرب أن عطيل هو اسم من عنديات خليل مطران، وليس ما اختاره شكسبير لبطله.
بعد…
مشكلة اللغة العربية مع الترجمات من الأدب الروسي اكبر وأكثر تعقيدا، ترجم العرب الأدب الروسي أول الأمر عن الانجليزية والفرنسية، بل أن سلسلة الترجمات الكاملة لكل اعمال دوستويفسكي التي انجزها الدكتور سامي الدروبي رحمه الله كانت عن الفرنسية وليس عن الروسية، الأمر الذي جعلنا نعرف اسماء الروائيين الروس عبر هاتين اللغتين، بعد أن لعب المترجمون “الانجليز والفرنسيس” بهذه الاسماء لتكون قابلة للفظ باللغتين الفرنسية والانجليزية، فماذا حدث؟
أذكر أنني قرأت رواية مترجمة من الروسية قبل 15 عام، صدرت عن دار المأمون في بغداد في الثمانينات ربما، للروائي الروسي ليرمنتف، اسمها فاديم، ترجمها د. مكي عبد الكريم المواشي، ولم اجدها على الانترنيت، في مقدمته بين المترجم الضليع هذا الخطل الحاصل في أسماء الكتاب الروس بسبب أننا قرأناهم أول مرة عبر لغة وسيطة، فمثلا تولستوي يلفظ بالروسية طالسطوي، ودوستويفسكي يلفظ بلغة أهله داصتافسكي، وهكذا قل عن بقية الاسماء.
اعتادت آذاننا أن تسمع كلمة معينة، فصار كل ما يختلف عنها خطأ، حتى صرنا نفتي على شخص يحمل شهادة الدكتوراه باللغة العربية، وترجم عشرات الكتب ترجمة فائقة الدقة، في الفلسفة والشعر، ناهيك عن مؤلفاته الخاصة، اتفقت معه أم اختلفت في خياراته السياسية، فننعى عليه استخدامه لكلمة معينة ونجعلها خطأ، لأن آذاننا تعودت على غيرها لا أكثر، والكلمة بوجهيها صحيحة، وإن كنت أميل الى كتابتها كما يلفظها أهلها، وليس كما أشاعها المترجمين.
نظل مشغولين بهذه السفاسف وننسى مصائبنا الكبرى، مثل أزمة المياه، والكهرباء، ووووو.
 الحقيقة أن هذه الضجة حول استخدام د. حسن ناظم لكلمة واشنطون بدلا عن الشائع سياسية وليست معرفية،

الشيخ والفلاح في العراق (1917-1958) مراجعة نقدية

علي عبد الهادي المعموري

هذا العنوان هو اطروحة د. حنا بطاطو للدكتوراه، ويعرف الباحثون بطاطو بعمله المهم (العراق) باجزاءه الثلاثة، كتاب تأسيسي لا يمكن للباحث في تاريخ العراق الحديث أن يتجاوزه.
أما اطروحته، فقد وردت أغلب معلوماتها في كتاب العراق، ولكنها تميزت عنه بالتركيز على تحليل موقع شيوخ العشائر اجتماعيا، من أين يكتسبون سلطتهم، وكيف سيطروا على الأراضي، واختلاف نوع سلطة الشيخ من إقليم إلى آخر في العراق.
الاطروحة تترجم للمرة الأولى، وصدرت عن دار سطور في العراق، ودار سومر في لوكسمبورغ بترجمة د. صادق عبد علي طريخم، وتقديم د. سلمان الهلالي.
ويُشكر للمترجم سعيه للحصول على الاطروحة، واستحصال حقوق ترجمتها، وبذله جهد شخصي كبير وعناء لا يُنكر في سبيل هذا المشروع، مما يوجب شكره على هذا.
ولكن، وعلى أي حال، ما ذكرناه لا يمنع الباحث من نقد الترجمة والكتاب، أمر سبق ان فعلته بنفسي مع ترجمة عفيف الرزاز لكتاب العراق، حيث دونت العديد من الاخطاء التي وقع الرزاز بها لأنه ليس عراقيا، وكذلك نقدت بعض استنتاجات المؤلف رحمه الله، مما وجدت فيه وهما او توجيه لبعض الأمور باتجاه لا يوافق فكرتها الأساس، لأن المؤلف وإن نبش عميقا في التاريخ الاجتماعي العراقي فإن بعض الأمور فاتته، فهو غير عراقي بالنهاية، كتبت ما كتبت، دون أن انتقص من ترجمة الرزاز واللغة المحكمة السبك التي جاءت بها، فالرزاز مترجم محترف متمكن من اللغتين.
على أي حال، الأمر لن يختلف مع ترجمة الشيخ والفلاح، إذ كتبت ملاحظاتي عليه، وأرجو أن يتسع صدر المترجم د. صادق، ومقدم الكتاب د. سلمان لما سأكتبه من نقد للكتاب.
فبالرغم من الفائدة الجليلة التي اسديت إلى الباحثين، لكن لكن الترجمة وطبع الكتاب لم يكونا على قدر الكتاب برأيي، ومن عدة نواحي.
فمن ناحية إخراج الكتاب، جاء حافل بالاخطاء الاملائية على طوله، عدم تمييز بين الألف المفتوحة والمكسورة وهمزة الوصل بطريقة لا تكاد تخلو صفحة منها، اخطاء في التنضيد ودمج بعض الكلمات مع بعض، وغيرها.
أما علامات الترقيم، فنادرا ما تجد فارزة في الكتاب، ووضعت بدلا عنها نقطة نهاية كل جملة داخل الفقرة الواحدة، كما في نهاية كل فقرة، الأمر الذي يربك القارئ، فالفارزة تؤدي وظيفة تختلف عن وظيفة النقطة، وتبديل مواضعهما يزري بالاخراج الفني للكتاب.
من ناحية أخرى، وبمقارنة لغة الترجمة بلغة الرزاز نكتشف بونا شاسعا بالسبك، وتكثيف المعنى ونقله ببلاغة، الترجمة ضعيفة السبك ولغتها غير جذابة.
بالمناسبة، صورة الغلاف بظني لمجموعة من الصابئة العراقيين، ولا اظنها تناسب محتوى الكتاب لو صدقت ذاكرتي بشأنها.
كذلك، فإن تصرف المؤلف وتقسيم الكتاب إلى مباحث لم يكن موفقا، المؤلف، ومقدم الكتاب د. سلمان الهلالي كلاهما اكاديميان، ومسألة تقسيم الدراسة إلى مباحث بهذه الطريقة لم تكن موفقة، فلا ترك المترجم الكتاب كما جاء في صورته الأصلية، ولا هو قسم الكتاب إلى فصول ومباحث كما هو متعارف عليه، وكما يطلبه كأكاديمي من طلابه، حتى جاء مبحث كامل بصفحة واحدة!
من جانب آخر، وفيما يخص التعليقات التي وضعها المترجم على الكتاب في الهوامش، فإن بعضها جاء موفقا بينما لم يوفق في بعضها الآخر، واستطرد أحيانا فأضاف هوامش لا ترتبط بالمتن، مثل ما ورد في الهامش 1 ص61، بل انه ذكر في الهامش ص99 ما ذكره المؤلف في المتن نفسه، أو في الهامش 2 ص38، والهامش 1 ص61، وفي مواضع أخرى، يشرح المؤلف في الهامش شيئا شرحه المؤلف بعد صفحات من الهامش، مثل شرحه لمصطلح السركال والسراكيل، ناهيك عن بعض الاحكام التي اطلقت دون مصدر، مثل الهامش رقم 1 ص140 والهامش رقم 3 ص141.
أما الحكم المطلق غير النسبي الذي تبناه المترجم في الهامش 3 ص183 حيث قال: (يقصد المثل الشعبي الدارج (اللي ياخذ امي اصيحله عمي) وهو دلالة على اللاأبالية والسلبية التي يتميز بها أغلبية الناس في المجتمع العراقي تجاه الاحداث والمواقف السياسية) وهذا العبارة من الخطاب السلبي الدائر الذي صرنا نسمعه ونقرأه يوميا على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، من هجوم وشيطنة للعراقيين دون تحليل للاحداث والاسباب، المترجم اطلق خطابه هذا متجاهلا التحليل العلمي القيم الذي قدمه المؤلف رحمه الله في الصفحة التالية (184) لما يصنعه الفقر من سلبية تجاه الشأن العام، دون حكم سلبي على أغلبية المجتمع، ولا أعرف كيف قاس الدكتور المترجم الفاضل هذه النسبة، حكم ناقض نفسه فيه حين كرر فكرة المؤلف في الهامش 2 ص184 حينما حلل دور العوامل الاجتماعية في تكوين السلوك الجمعي تجاه الاحداث، فأي الهامشين فعلا يتبناه المترجم؟
حقيقة، تمنيت لو لم يتورط المترجم بوضع تعليقات واستنتاجات شخصية من حضرته، خصوصا ان الكتاب موضع الترجمة ليس ضمن تخصصه العلمي، الأمر الذي قدم احكاما مربكة، مثل ما ذكر اعلاه.
على أي حال، وكما فعلت مع كتاب العراق، ادون ملاحظاتي مرقمة هنا:
1. ص40 اظن أن المقصود هم بنو خيكان في المجرة، وليس بنو خيكان والمجرة كما جاء في الكتاب، التي بدا ـ المجرة ـ وكأنها فخذ آخر من قبيلة بني مالك وليست مكانا يسكنه بنو خيكان.
2. ص50 ورد اسم (آل دودا) ولعل المقصود هو (آل الددة).
3. ص55، آل أبو التمن ليسوا سادة، وهو خطأ من المؤلف.
4. ص63 ورد خطأ في الهامش 1 وهو من تعليقات المترجم، اسم مؤلف كتاب اختراع العراق هو دوبي دوج وليس روبي.
5. ص58 كتب أن خوام العبد العباس هو شيخ بني زيرج، وهو خطأ، إذ انه شيخ بني زريج وليس الازيرج، وتكرر الخطأ مرة أخرى ص132 حين قال (خوام العبد العباس شيخ بني ازيرج).
6. هامش 3 ص73، ما ذكره المترجم عن الاثوريين وقوات الليفي غير دقيق، الآثوريون نزحوا إلى العراق من منطقة حكاري في جبال الاناضول أواخر العهد العثماني في العراق، وأسس البريطانيون من بينهم قوات الليفي عام 1914 وكان معهم الهنود، وفي 1915 صارت الليفي قوات آثورية خالصة، مليشيا تتبع البريطانيين لقمع المواطنين المحليين، واحتفظوا بسلاحهم ورفضوا تسليمه للحكومة حتى عام 1932 حين قمعهم بكر صدقي بعد سفر الملك فيصل الأول إلى سويسرا، عراقيتهم لا ترقى إلى عراقة الجماعات العراقية الأخرى ولا صله لهم فعلا بالاشوريين القدامى في العراق، ربما من الجيد قراءة الكتاب الذي ترجمه الدكتور مؤيد الونداوي عن الليفي، وما كتبه الاستاذ باسم فرات بهذا الشأن.
7. ص89 ورد خطأ في اسم الديوانية.
8. ص195 ورد اسم (الشاهنية) وهو خطأ إذ المقصود (الشحنية) وهم الحراس، فترجمت كما لفظت بالانجليزية.
9. ص108، وفيما يخص العريضة التي رفعها الشيوخ إلى الملك بشأن استعمال الملك فيصل للضباط الشريفيين السابقين في الادارات العامة والوزارات وما شابه من مواقع المسؤولية الحكومية، وكما ذكرها أيضا حنا بطاطو في كتاب العراق، ولكن الترجمة هنا جائت ملتبسة فلم يتبين المقصود إذ كتب ((ففي 1922 طالب 40 من الشيوخ المؤيدين لبريطانيا بعريضة إلى الملك وبإشارة واضحة إلى تعيين متصرفين من الموظفين القوميين من أنصار الشريف السابقين وتعيين رجال أعمال وزعيم قومي شهير هو جعفر ابو التمن كوزير للتجارة “بالاستماع إلى مشورتهم وأن يختار للحكومة من هو كريم المحتد والنسب لأنهم مصدر موارد البلاد ومصلحة الدولة تهمهم وتهم عشائرهم))، ماذا يفهم القارئ من هذه العبارة؟ إن الذي لم يقرأ كتاب العراق لحنا بطاطو سيلتبس عليه الأمر ويظن أن المقصود هو مطالبة الشيوخ بتعيين الضباط الشريفيين في هذه المناصب وليس الاعتراض على تعيينهم، كما أن الملاحظة بشأن أبو التمن أيضا غير دقيقة سواء وردت من المؤلف نفسه أم ان الترجمة الملتبسة أوحت بها، في كتابه العراق اثنى كثيرا على ابو التمن، وأوضح شعبيته الواسعة والاحترام الذي يحظى به بين العشائر ورجال الدين، وجهوده الوطنية والكلمة المسموعة له بما يجعل المطالبة بتنحيته عن منصبه أمر مستبعد، حقيقة لم أجد من يهاجم أبو التمن يوما سوى شخص من الفسابكة الدائرين في مواقع التواصل الاجتماعي ينحدر من أسرة قديمة غاشمة هاجمه لأنه لم يقم بالواجب مع زوجة المرحوم الفريق جعفر العسكري حينما كان وزيرا في حكومة حكمت سليمان أيام انقلاب بكر صدقي وطعن بنسبه دون دليل.
10. وهنا أيضا اشير إلى ملاحظة المؤلف نفسه حول الموضوع، من أن هذا الترفع الفيكتوري مما اوحى به ضابط بريطاني إلى الشيوخ فتلقفوه وتصرفوا بموجبه، حقيقة ان موضوعا الطبقية وكرم المحتد ورفعة النسب والاعتزاز بهما والترفع على اساسهما ليس بالجديد الطارئ على العراقيين والعرب، منذ القدم كان السادة لا يزوجون بناتهم لغير السادة، والخزاعل لم يكونوا يزوجون بناتهم لغير الخزاعل أو السادة، والطبقية موجودة دون التباس عند الدول الاسلامية، يعني ليس في الموضوع تأثيرات بريطانية كما ذهب المؤلف، وهو ما كرره أيضا لاحقا في كتابه العراق، وفي الأمر شيء من المبالغة في التأثير الكولونيالي لا أعرف كيف وقع المؤلف تحت تأثيرها.
11. ص118، ورد اسم مقاطعة (السيكال) والصحيح هو (الصيقل) أو (الصيـﮕـل)، كما ذكرت في عدة كتب، منها مباحث فراتية للمؤلف المرحوم السيد فيصل غازي الميالي.
12. ص123 سقط اسم علي جودت الأيوبي، فجاء هكذا (جودت الأيوبي)، وهو خطأ طباعي فيما يبدو.
13. في الهامش رقم 1 الذي وضعه المؤلف ص 128، كتب المؤلف هذا الهامش الذي انقله بالنص رغم طوله: (بعد الحرب العالمية الثانية ونتيجة لتداعيات الحرب الباردة (1945 – 1990) بين المعسكر الغربي والمعسكر الاشتراكي الشرقي هيمنت التوجهات الثورية واليسارية على المشهد الثقافي والسياسي للمجتمع العراقي، وأصبح هدف الانتلجنسيا العراقية هو تقويض النظام الملكي واسقاطه، وكان المحرك الاول لهذا التوجه هو تبنيها للتيارات الثورية والتأثر بخطابات جمال عبد الناصر والثورة المصرية) ولي أن أسأل الدكتور الهلالي، هل أنت مقتنع بهذا الكلام والحكم التاريخي الذي دلّس على الطريقة المعروفة عند أهل الحديث بين سنوات طويلة وتيارات متعددة بهذه الطريقة؟ ولي أن أسأل الاساتذة المختصين إذا كانوا مقتنعين بهذا التعليق الذي فضلا عن عدم الحاجة إليه في الكتاب فإنه ملتبس تماما.
الحرب الباردة بدأت كما ذكر المترجم فعلا عام 1945، بينما وقعت الثورة المصرية عام 1952، ولم يستلم عبد الناصر السلطة فعليا إلا بعد تنحية محمد نجيب عام 1954، فكيف أثر عبد الناصر على الخطابات الثورية منذ بداية الحرب الباردة ونهاية الحرب العالمية؟
وإذا كان الحال هكذا فلم أرهق حنا بطاطو نفسه في كتاب العراق بأجزائه الثلاثة الضخمة بتتبع جذور الفكر الاشتراكي وتاريخ الحزب الشيوعي في العراق منذ بداية القرن الماضي، ومراحل المد والجزر في حياة التيارات الثورية في العراق قبل ان يُقبل جمال عبد الناصر في الكلية العسكرية؟
هل فعلا كان هدف النخبة العراقية بكل تياراتها المختلفة هو تقويض النظام الملكي؟ كلهم بدون استثناء؟ على أي اساس يقدم أكاديمي مثل هذا التعميم؟ الحقيقة أن ولا حزب عراقي بما فيهم الحزب الشيوعي كان يفكر باسقاط النظام الملكي إلى وقت قريب من انقلاب 14 تموز في العراق كما يذكر د. عامر حسن فياض، وأن الأمر برمته كان مرتبط بهوس الضباط وتطلعهم إلى السلطة والإفادة منها وتعزيز مكانتهم التي حوصرت منذ حركة العقداء الأربعة الفاشلة بكل اخطائها.
تأثيرات جمال عبد الناصر الفعلية لم تبدأ إلا بعد انقلاب 14 تموز، والهامش باكمله ملتبس ويخلط بين عوامل كثيرة بطريقة خاطئة.
14. ص130، الهامش 2 من المترجم، ذكر بيت شعر للجواهري بطريقة خاطئة، والبيت ورد في قصيدته (عميد الدار) التي قيلت لتكريم الدكتور هاشم الوتري عميد الكلية الطبية العراقية، حيث أن البيت الصحيح كالتالي:
وبأن أروح ضحى وزيرا مثلما……….أصبحت عن أمر بليل نائبا
15. ذكر بتكرار اسم (الشهلاء) لوصف المقاطعة التي تخضع لآل الصيهود من شيوخ البو محمد، فمرة يذكرها الكحلاء، ومرة يقول الشهلاء، وبرر المترجم ذلك بأن المؤلف نفسه ذكرها باملائين مختلفين ـ في نقاش على صفحات الفيسبوك ـ ولكن لو كان المؤلف وقع في وهم فلا يمكن تكرار وهمه، خصوصا أن ناحية الكحلاء معروفة، الأمر تكرر مع قضاء المجر الكبير الذي ترجمه المؤلف باسم (المجر الأكبر) ص145، وكرر الاسم اكثر من مرة.
16. ص154 ورد اسم قبيلة الازيرج مكتوبا هكذا (الزيرج) وهو خطأ، والصحيح ما اثبت هنا، الازيرج.

أما مقدمة الكتاب، فبالرغم مما أجاد د. سلمان بذكره عن منهجية الكتاب وأهميته ومطالبه، لكنني اود ان اناقشه ببعض الأمور.
فلو تجاوزنا الحكم المطلق الذي كتبه الدكتور في أول كلامه بشأن المجتمع العراقي، وانتقلنا مباشرة إلى ما كتبه ص8 عن الوجود العربي في العراق، وأنه لم يستطع تغيير هوية المجتمع العراقي حتى الفتح الاسلامي الذي “استطاع تغيير الهوية الحضارية العراقية، والتحول نحو الثقافة العربية والديانة الاسلامية، من خلال السلطة السياسية والاستيطان العربي والهيمنة الاقتصادية” كما كتب بالنص، وهنا لي أن أسأل الدكتور الهلالي عن معالم تلك الهوية العراقية التي غيرها العرب الموجودين قبل الفتح أصلا، وبكثرة غالبة قادت إلى أن يسمي الفرس العراق بـ(تيازي) نقلا عن السريانية التي تصفه باسم (طيايي) نسبة إلى قبيلة طي العربية، وهي واحدة من قبائل كثيرة استوطنت العراق وهيمنت على جغرافيته وورد ذكرها في المدونات التاريخية منذ القرن الثالث الميلادي، كما فصل د. نصير الكعبي ذلك في كتابه الذي سبق لي أن عرضته، ما هي معالم تلك الهوية، وتمثلاتها التي انتزعت؟
كما أن من المهم الإشارة إلى أن (الخزاعل) لم يكونوا حلف عشائري ـ كتب الدكتور اتحاد، وهي كلمة غير متعارف عليها في العهود التي تقوم بين العشائر، ويقال لها أحلاف ـ نعم، كانت لهم احلاف معينة تتفعل أيام الحرب حين ترفع الراية، وتنتهي حين تنتهي الحرب، مثل حلف (چبشة) ـ بالجيم الفارسية ـ مع عدد من القبائل في الفرات الأوسط، أما الخزاعل بذاتهم فليسوا حلفا، بل قبيلة، ووصفهم بالحلف ص9 يناقض تعريف القبيلة الذي ساقه د. الهلالي ص8، ووصف الخزاعل بأنهم حلفا كرره المؤلف حنا بطاطو ص48 وهذا خطأ.
ص10، كان من المهم الاشارة إلى أن العثمانيين لم يطبقوا نظام الالتزام في الفرات الأوسط، وتم تطبيقه على الجنوب والمنتفك.
وبينما ذكر الدكتور الهلالي ص12 دور البريطانيين في انعاش العشائرية وتعزيز سلطة الشيوخ وفق رأي هنري دوبس مهملة رأي ستيفن همسلي لونكريك، فإنه عاد نهاية ص13 ليقلل من قيمة الدور البريطاني، فأي الحكمين نأخذ به؟
هذا أبرز ما استطعت تدوينه من ملاحظات على الكتاب وترجمته، أما الاخطاء الإملائية فأكثر من أن أحيط بها، ويستوجب مراجعة الكتاب من قبل مدقق لغوي قبل طبعه مرة ثانية.
ولا يفوتني أن اختم حديثي هنا بشكر المترجم لتصديه لهذا العمل الجليل، وما دونته ليس فيه أي دافع شخصي إذ لا توجد معرفة سابقة بيننا، ولولا أهمية الكتاب وجلالة قدره لما كتبت ما كتبت، وقد كتبت مثلها على كتاب العراق، ونوهت إلى تدخلات المترجم أيضا وما كتبته منشور في ذات هذه المدونة (اسى عراقي)، وكلي أمل أن يتسع صدر المترجم والمقدم لما كتبته، حرصا مني على الكتاب، وضرورة أن تتم مراجعة الطبعة الثانية لأهميته الفائقة، ولكي يكون مفيد للجميع، لأن الكتاب بصيغته الحالية قد يكون مفهوما بالنسبة للمتخصصين ولمن سبق له قراءة كتاب العراق لحنا بطاطو.

1/ 1/ 2019

مباحث فراتية في الجغرافية والتاريخ والآثار (الجزء الأول)

مباحث فراتية في الجغرافية والتاريخ والآثار (الجزء الأول)

تأليف السيد فيصل غازي الميالي

طبع هذا الكتاب في النجف عام 2009، بنسخ قليلة، وتفضل نجل المرحوم المؤلف بإعارتي نسخته الشخصية لأقرأه، وأخبرني أنه يعتزم إعادة طباعته مع الجزء الثاني سوية.

الكتاب مبهر، فالمؤلف عارف بالفرات الأوسط بشكل استثنائي، وهو إذ يحاكي يعقوب سركيس في كتابه مباحث عراقية، فإنه يتميز بدوره بوفرة كبيرة من المعلومات، مع تحليل مركز على بعض القضايا التاريخية والعشائرية والآثارية التي يتميز المؤلف بسعة اطلاعه عليها.

فقد أتاح له عمله في مديرية الإصلاح الزراعي وفي لجان تنفيذ قانون الإصلاح فضلا عن سكرتارية المجلس الزراعي للواء الديوانية لمدة طويلة أن يكون على اطلاع تام بالنزاعات العشائرية حول الأراضي وحدودها ومن يسكن فيها، فضلا عن تضلعه في التنقيبات الآثارية في الفرات الأوسط ومعرفته بمعالمه الآثارية.

والكنز الحقيقي في هذا الكتاب لا يكمن في إحالاته الكثيرة إلى الكتب المختصة، وإن كان له فضل كبير في تعريف القارئ بهذه المصادر التي صار بعضها نادر ومفقود، خصوصا المخطوط منها، ولكن فضله الكبير يتعلق بشكل أبرز بما دونه من معلومات شفاهية عن ألسنة المعمرين، وشيوخ العشائر، ومن شهد العديد من الوقائع التاريخية في العراق من بين كبار السن، فضلا عن تحليلاته المهمة حول بعض الأماكن الأثرية في الفرات الأوسط.

الكتاب كنز من المعلومات عن الفرات الأوسط، وفيه توضيح للعديد من الالتباسات والمغالطات التاريخية بشأن الرجال والأمكنة، وإني لألتمس اسرته الكريمة بالتعجيل بطبعه مرة ثانية مع الجزء الثاني من الكتاب، فالكتاب جدير بأن يكون بين يدي الباحثين في تاريخ الفرات، خصوصا في الحقب المضطربة من تاريخه.

تضمن الكتاب مجموعة من المباحث، يربط فيما بينها الفرات الأوسط، تاريخا وتراثا، وجاءت مباحثه في 27 مبحث، منها مبحث ضم فصلا من رحلة ج. فلانتان كيري، أحد أعضاء الحملة البابلية التي وجهتها جامعة بنسلفانيا عام 1895، تكفل المؤلف بترجمته على نفقته من الرحلة التي لم يتم ترجمتها، ومبحث آخر ضم تحقيق تاريخي مهم عن تل الزجرية وتل ابن الزجرية الأثريين وعلاقة الموقعين بابن زكرويه، فضلا عن توثيق مهم لعدد من انتفاضات الفرات الأوسط، وطبيعة سلوك الشيوخ خلالها، ومبحث في غاية الأهمية عن تحولات مجاري نهر الفرات وما تبعها من مشاكل وتغيرات ديمغرافية.

أكرر هنا رجائي من أسرته الكريمة بالتعجيل بإعادة طباعة الكتاب.

في انتظار الابابيل

(1)

ألم ترَ كيف فعل بنا أصحاب الفيل؟

ها نحن

منذ ثمانون ـ او لعلها ثمانين فالأمر سيان ـ ننتظر طيرا أبابيل تبدد هذه الوحشة

تدرك أحلامنا التي تُفصد واحد تلو آخر، وتيبس أرواحنا مثل الوند وجسره الوحيد

أرواح الشباب التي تهشم في صحن ثريد المتاجرين باسمك لا في صحن هاشم الممدوح أيام السغب، ونحن نتلوى حولها يستنزفنا اليتم والتطلع

نرفع رؤوسنا عاليا، عاليا إليك

الأحلام المتمددة في وادي السلام يصلها بقلوب الأمهات خيط سمكه الوجع الأزلي المقيم في هذه الارض

وسؤال اللائمينا فيك يبري تصبرنا ويأكله رويداً: كيف ترك قطعان الملوك والأمراء والضباط وأشباه الرجال والكواسر الخسيسة تأكلكم وهذه الأرض؟

(2)

مدي إلى هذا التنور القتيل في صدري كفك البلور

اقبضي ما شئتِ

سيلوث الرماد ذلك الفجر الممتد من جبينك إلى قلبك

(3)

يقتلني

أن تلك الأكف الضارعة بالدعاء لم تعد تمطر في روحي

أن الندى لم يعد يتسرب منها إلى قلبي الهلع

وأن الليالي التي كنت ارصف فيها الحلم على الحلم، وأصب بينها الأمل لأصعد بما ابتنيت نحو أمانك

أن تلك الصفوف التي خططتها بالطول والعرض رجاء الطمأنينة

كلها تتهاوى أمامي وأنا انتظر وانتظر طيرا أبابيل لعلها هاجرت إلى قطبك الشمالي تحميه، هربا من هذا الجحيم المحتاج إلى نظرة من لطفك

28/8/2018

 

 

 

عن الدكتوراه ورفيق السكن والخوف والمحبة

(1)

في الغالب، تكون البدايات في الأمكنة الجديدة صعبة، وتتطلب وقت لكي يندمج الانسان بين أهلها، الانسان السوي، فكيف إذا كان شخص انطوائي مثلي؟

(2)

كان علاء العبودي أول من تعرفت به، حين قدمت إلى بغداد طالبا في كلية العلوم السياسية بجامعة النهرين عام 2005، قدم علاء هو الآخر من الناصرية، من ناحية (الفود) التي سميناها (الفهود) وصار علاء بموجبها (أبو الفهود) حينا أو (أبو فهد) أحيانا أخرى.

(4)

كان يكبرني بثلاث سنوات، سمرة جنوبية لا تخطئها العين، وجه دقيق الملامح، وروح ودودة تخبرك منذ أول وهلة بأن صاحبها من أهل الناصرية، الاجتماعيون، أصحاب الأصوات الجميلة الدافئة، قامة نحيلة، طول معتدل ـ وإن كان يفوقني طولا ـ ضحكة ممتدة، ونفس تقتحم وجودك بمحبة كبيرة، يدخل حياتك مباشرة بدعابة قد تبدو ثقيلة من شخص تعرف عليك للتو، يتلوها بضحكة مباشرة لطيفة تبدد (الجفلة) التي اصابتك من هذا الدخول العاصف، تتلوها مصافحة من كفه خشن مكافح ينبيك بالحياة القاسية التي عاناها صاحبه، ليصعب عليك بعدها اخراجه من حياتك إلى الأبد، لا أذكر كيف بدأ الحديث معي، هو من بدأ الحديث دون تردد، لا اذكر كيف، لكنني لاحقا عرفت اسلوبه الأثير، وطبعته الخاصة في بناء شبكته.

(5)

في المرحلة الأولى، انتظمنا في شعبة واحدة، وكنا غالبا نقف معا بعد الدروس، ونتهامس أثناء المحاضرات، كان يسكن في القسم الداخلي، وكنت اسكن في منزل عمتي، في العام التالي، وبعد أن تصاعدت دوامة القتل الدموي في بغداد، سكنت في القسم الداخلي، بعد تردد لم يبدده أحد سوى علاء، اتصل بي وقال: تعال، غرفتك فارغة يخوي، ما عليك باللي يكول ماكو مكان.

كانت الليالي الأولى في القسم الداخلي صاخبة، قرر زملاء الغرفة أن يتظارفوا برأسي، فتناوبوا على وضع المفرقعات تحت سريري أثناء نومي، وحين مللت من هذا الهراء انتقلت إلى غرفة علاء، دون ان تتوقف محاولات التظارف تلك، عندها ظهر معدن علاء النظيف، فبينما كنت قانطا من اضطراري إلى المبيت في القسم الداخلي، متوترا لا أريد ان احتك بأحد أو اماحك مخلوق، مما ردعني عن الرد على المتظارفين، عندها وقف علاء في باب الغرفة ليتشاجر مع من كان يضح المفرقعات بباب غرفتنا، فكفوا من ساعتها.

(6)

بعدها، بقيت وعلاء شريكي غرفة مزمنين لسنوات وسنوات، حتى نلنا الماجستير، نالها قبلي، ولحقت به، وجدت غرفتي جاهزة مع علاء، علاء النظيف القلب، والمفرط النظافة الشخصية، كنا معه ملزمين بنظام صارم من الدقة في الحياة، والترتيب، والنظافة إذ لم يكن يسمح بأن تتسخ الغرفة، أو أن تعمها الفوضى التي تعم غرف الطلاب في الأقسام الداخلية، كنا كأننا في بيوتنا، صحبة علاء، المجد في الدراسة دون كلل، حتى نال الامتياز عن رسالته للماجستير، ونلتها بعده.

(7)

نهاية الشهر الماضي اتصل بي علاء ليخبرني أن مناقشة اطروحته للدكتوراه ستكون يوم 12 /7، ودون تفكير، ومن لهفتي، ذهبت إلى الكلية يوم الخميس الذي صادف 5/ 7، ضحكت على نفسي كثيرا.

(8)

رفيق السكن والخوف والمحبة، زميل الدراسة، صديقي القديم، الجنوبي الشجاع، الأسمر البهي، الممتلئ عزيمة وإصرار، فخور بك أيها العزيز، فخور بما انجزت، فخور باجتيازك لكل المصاعب والمحن، وصولا إلى يومك الكبير هذا، مكلل بالدكتوراه، تليقان ببعضكما أيها الحبيب.

ألف ألف مبارك للدكتور علاء العبودي.

 

 

عن الأمكنة التي لا تغادر البعض

للأمكنة روح تسري فيها، وللأشخاص أمكنة تسكنهم، تكاد أن تجدهم مترادفين، يشعرون ببعضهم، بعض الأشخاص حين يلجون مكانا، أو يمرون بشارعٍ، تكاد تشعر أن الجدران تتبرج لهم، تظهر أجمل ما فيها من المفاتن، يتناغمون مع بعضهم كتناغم أصابع نصير شمّة مع العود، فلا يبارحون الدار، ويتلف أحدهم عمره مترقباً كذاك الذي ينتظر بغداد في قصيدة مصطفى جمال الدين حين يقول:

والآن يا بغداد يأزف موعد

لك في الخلود قلوبه تتنظرُ

من كل من أعطاك غض شبابه

ومضى بذابل عمره يتعثر

يترقبونك والطريق أمامهم

بهم المسارب ضيق مستوعر

يبس الزمان وهم على أطرافه

عذب بما تعدينه مخضوضر

ثم يؤوبون إلى حيث آخر الطريق، وحيث الراحة الأبدية، مباركون حيث حلوا، وليس في يديهم مما انتظروا غير المحبة.

أما البعض، فتأخذهم الأزمنة بعيدا، وتقلبهم الليالي، يتنقلون بين المرابع كالرعاة، يثملون ويصحون، يحزنون ويبكون، يلبسون أجمل ثيابهم، ويأكلون على أفخم أفخم الموائد وأكثرها ترفا، يشربون مياها نقية لم تكدرها الأنظمة الغبية، ولم يستنزفها العشب الضار، يأوون آخر اليوم إلى منازل مكيفة، وفرش وثيرة، ولكنهم، ومهما شتموا دارهم الأول، وقرّعوا رهطهم الأولين، فإنهم، وحين يغلقون على أنفسهم مصاريعها، ويخلون إلى ذاتهم، مجردة عارية، يطلقون حسرة طويلة، يشتمون أنفسهم، ويترنمون بما قاله المنشد الأحوازي ذاك (الله يا ديرة هلي يلماكو مثـلـﭻ ديرة).

أذرعُ صفحاتهم في هذا الفضاء الالكتروني، فأجدهم ـ حسنا، بعضهم على الأقل ـ على بعد دارهم، وكثرة ثمارهم، يقتطعون نصف وقتهم ليشتموا أهل بلدتهم الأولى، وبلدهم الأم، مستصغرين قدرهم، مسخفين شأنهم، يسخرون من كل ما يطمأن نفوس جيرانهم الهلعة أبداً، ثم أسأل نفسي، لماذا يفضون كل هذا المزاج لنا؟ ألسنا دونهم في القدر؟! ودونهم في الفهم؟! ألم ينقذوا أنفسهم من الوهدة التي غرزت فيها أرواحنا عميقاً؟ ما الذي يجبرهم علينا؟ هل هو سعي إلى إصلاحنا بشتمنا؟ أم هي عقدة و(الحـﮓ ربعك)؟

ثم أتذكر ما قاله عريان السيد خلف يوما، حين تحدث عن امرئ يشتم نفسه من شدة غضبه، ولكن الجماعة إياهم غاضبون، ويكابرون، فيشتموننا، يكرهون في أعماقهم أنهم لا يزالون يحبون تلك الساقية الأولى، وشظية الزجاج الأولى التي جرحت أقدامهم في تلك القرية النائية، يحن أحدهم إلى أولى صفعات أبيه، وشتيمة أمه الدافئة، ولكنهم يكرهون هذا الحب، ويأنفون من ذاتهم المغروزة عميقا، المدفونة تحت كتل من الذكريات الكئيبة، وليالي الشراب المهتاجة في بارات السعدون الرخيصة، أو الصلوات الخائفة الوجلة في المساجد المراقبة، والحيرة التي تقلبهم ذات الخبب.

الأمكنة حواضن ذكرياتنا، بيادرنا التي تملئ أرواحنا بالشبع، الكأس الأولى التي نظمأ لها بعد كل مشرب عذب.

خارج المتن: في يومها الأول، دخلت الفتاة الجميلة، الملتحقة بالسلك الدبلوماسي، التي نقلت إلى بعثة بلدها في ربع أوربي أخضر، وما أن اجتازت عتبة السفارة، وجدت في استقبالها زملائها، وبينهم رجل يرتدي بذلة حمراء، تحتها قميص أصفر فاقع، وعقد رباط أخضر مفسفر حول عنقه الغليظة، صرخت (أيييع)، ثم هوت على وجهه بصفعة رنانة، كتلك التي منحها لها الوالد حين ارتدت أول تنورة قصيرة في حياتها، ورضيت أن يعيدها خال الفتى الأحمر المخضر المصفر ذاك ـ المتنفذ في بلدها ـ إلى مقر الوزارة، كموظفة في الأرشيف، القبح يستفز القلوب الجميلة.

[الصورة: للفنان علي آل تاجر]

 

هل كان الأمر يستحق هذا الثمن الباهظ؟

ثم أقف عند حافة الروح، اقلب الصور واحدة تلو أخرى، تصطف بتناسق على قبور جديدة، تناسق تاق له نازلوها حين ذرعت أقدامهم هذه الأرض، كانت كل خطوة تندك على خد هذا الثرى مثل سنبلة حديثة الولادة، كفسيلة تخطو مبتعدة عن أمها لتغدو نخلة شامخة، لكن الليالي والتجار غرسن تلك القامات الشوامخ في الأرض عميقا دون أن يكون للغرس وعد بالحياة.

كيف بعثرتهم هذه الأرض؟ ثم ابتلعتهم الواحد تلو الآخر؟ ضربت بالفوضى حياتهم، اخترمَ مهجهم أن لا نظام لحياة أهلهم، ولا وعد بالمستقبل.

تتابعت رقدتهم بترتيب كان ليكفيهم لو لم يخرجوا من دنياهم بسواه.

ثم أسأل نفسي، هل كان الأمر يستحق هذا الثمن الباهظ، وهل لي أن أثمن شيئا لا أملك ثمنه؟

ثم ألتفت كرة أخرى، أتصفح الصور، وجه تلو وجه، عين تلو عين، ثم أرفع رأسي قليلا، تقبّل روحي وجوه الأمهات، تراقب قلوبهن وهي تطالع الصور، وفي المدى الواصل بين عيونهن وشواهد قبور أبنائهن تمتد أيامٌ كانت مرجوة، ترفل بزوجات الأبناء المناكفات، والأطفال، والملابس التي تفوح منها رائحة الكد والاجتهاد، بيوت اتخذت البهجة مطارق لأبوابها، يملئ حجراتها عبير العنبر ونسيم السمك المزقوف الذي لم يجد من يأكله، والخبز الحار الذي بقي وحيدا على موائد فارغة هجرها الفرح.

أي فرح يلم بمائدة لا تجد من تسد جوعه؟

ثم أسأل وجهي المحدق في المرآة، وعيناي تطيلان النظر في لحيتي المهملة: ألا تخجل من نفسك؟ كيف لك أن تخرج وتعود وتنام وتأكل وتسافر وتضحك وتعمل وتكتب؟ كيف لك أن تقنع نفسك بأن تتهرب من عملك، وتجلس باحثا عن صورة جميلة لعلك تكتب عنها بعض الكلمات المنمقة، حتى يقول لك محبوك: عاشت يدك؟ فتطالعك صورة هذه الأم، وقد وخط شيب الأرض طرف عبائتها، تخب على كرسي مدولب قاصدة شهيد كربلاء في اربعينيته، تطلب منه العزاء، هي صامتة، ولكن كل ما حولها يقول لك: هل كان الأمر يستحق هذا الثمن الباهظ؟

 

موت الام

أتدري ماذا أحسب موت الأم انه أن يموت الأمل في روحك، ان تفقد تلك الطمأنينة الازلية، في انك ومهما اخطأت فستجد من يبرر لك خطأك بمهارة يعجز عنها افلاطون، وتتكسر همة ارسطو دونها. ان تعرف أنك مهما شرَّقت وغربت، وسكرت وصحوت، وآمنت وكفرت، فإن هناك قلبا لا يرى فيك سوى القديس، ويحلم بالحسنى التي ستصير إليها، إن لم يكن لشيء، فلمجرد ذلك الحب الذي ينبض باسمك مع كل نأمة. قلب إذا نظر لوجهك شعر بالأمس واليوم والغد، بما كان وبما سيكون، قلب يرى فيك كل شيء، ولا يرى معك شيء، يراك كما لا يرى الخلق، ويسمعك كما لا يسمع الخلق، ويحس بك كما لا يحس الخلق، قلب وصفه القديس، النواب: ابيض عيونك حليبي واسود عيونك الليل اللي عد مهدك بجيته يبني طش العمى بعيني وجيتك بعين الدرب أدبي عالدرب المشيته ان تفقد نفسك بكل الطرق الممكنة، أهون من أن تفقد أمك.

عن الحياة وخياراتها (مترجم)

الكلمة أدناه هي لـ Sarah Bäckman وهي bodybuilder (لاعبة كمال اجسام) سويدية تعيش في الولايات المتحدة، الرياضة التي تفقد الرجال وهج الحياة وتجعل من يمارسها منهم يبدون كالتماثيل الصماء، فكيف بالنساء؟

على أي حال، رغم بساطة ما كتبته، لكن وصفها لتجربتها في الحياة عميق، وهي تثير أسئلة محيّرة، عن الحياة، وعن صورة الحياة في الغرب في مخيلتنا العربية، هي تقول (بترجمتي عن الانجليزية):

(انها لمفارقة جميلة ومبهجة أن افكر بأني أعيش اليوم ما اعتدت على ان يكون كابوسي الأسوأ في السابق، حينما كنت أعيش في السويد كنت بشكل جاد خائفة من أن اصبح ما نطلق عليه بالسويدية (Svensson) وهي كلمة تعني ان ينال المرء تعليما جامعيا، ويحصل على عمل جيد، يتزوج، يشتري سيارة، يحصل على منزل مع حديقة، يرزق بأطفال، ثم يعيش بعدها كالسنجاب ما تبقى من حياته بهذه الرتابة، وبمثل هذه الحالة لن تتمكن من الخروج عن الطريق لفعل ما ترغب انت بفعله خارج المعتاد، لأنك يجب أن تكون مثل كل أفراد المجتمع الآخرين، أو انك سوف تتعرض لانتقاد الناس، وهو الأمر الذي لم استطع يوما أن اتخيل نفسي أقوم به، لهذا بالأساس هربتُ إلى امريكا.

ولكن.. ما الذي أعرفه حقيقة؟

انا الآن متزوجة، لدي كلاب، منزل قديم في الضواحي، سيارة، في النهاية حياة بالضبط كتلتك الحياة التي كنت اعتبرها كابوسا حينما كنت تلك الفتاة القديمة في السويد، هل أن تفكيري تغير لأنني وجدت الشخص الصحيح لأعيش معه تلك الحياة التي كرهتها في السابق؟ أم ان الحياة ببساطة هي أكثر تنوعا وغنى بالألوان في الولايات المتحدة؟

شخصيا، اعتقد انهما الأمران معاً)

أليس من الغريب ان تتحدث فتاة سويدية عن رتابة معايير الحياة في بلدها؟ وان تقول بأنك لا يمكن ان تخرج عن أسلوب الحياة السويدي وإلا تعرضت للانتقاد؟ ورغم انها في النهاية تلمح إلى اختلاف طريقة الحياة في الولايات المتحدة (الحياة على الطريقة الأمريكية) ولا أباليتها، إلا انها تضيء على أمر آخر أكثر أهمية، هو ان تجد شريكا يشاطرك الرتابة تلك، بما يجعلها رتابة سعيدة.

وهنا أتسائل ألسنا نشتم مجتمعاتنا لذات السبب، منعك من الخروج عن المألوف؟

سؤال بحاجة لكلام طويل.

 

It’s pretty fun to think that I’m living what used to be my worst nightmare. When I lived in Sweden, I was seriously scared to be something we call a “Svensson” which means, you get a college education, get a good job, get married, get a car, get a house with a garden, get kids and then you live like a squirrel in a wheel for the rest of your life. You can’t stand out and do your “own thing”, you have to be “like everybody else” or people will judge you. It was something I couldn’t even dare to think about! So I basically escaped to America, and what am I know? I’m married, I have dogs, house out in the valley, car and life is exactly what would be a nightmare in Sweden according to my old mindset. Did my mind change because I found the right person to do it with, or is it because life simply is better and more colorful in the U.S? I think it’s both

 

انزياح الدين لصالح الفلسفة

الملحدون الجدد ومثقفو الفيسبوك يتصورون ان الحضارة الأوربية متقدمة لتجردها عن الدين وحسب، ما لا يدركه الجماعة ان الغربيين لم يحلوا الفراغ مكان الدين، الفراغ الذي يعيشه (الجماعة) إياهم، فالدين، بما يسوقه من أسئلة، وإجابات، وما يقدمه من قاعدة فكرية يحوج معتنقه إذا ما انزاح إلى منظومة فكرية تحل بديلا له، الحضارة الغربية انغمست بالفلسفة، وانتقلت شعوبها من الدين إلى الفلسفة، التي أسست للمواطنة والدولة المدنية، وحينما اضمحلت الروادع الدينية كانت الدولة المدنية، والمواطنة، والقوانين القوية قد هيمنت على الفرد الأوربي، وصارت أسلوب حياة له، جنبا إلى جنب احترام العقائد الفردية للآخرين، وعدم السخرية من متبنياتهم المعرفية والدينية، لتقوم العلاقة بين أفراد المجتمع على أساس احترام الحريات الفردية، وصيانة الحقوق، والتساوي أمام القانون.
(ربعنا) يحسبون انك لكي تصبح متطور كالغرب فما عليك إلا أن تصير ملحدا، وان تبدأ يوميا بسب عقائد الناس حقا كان سبك أم باطلا، ليتماهوا مع المتطرفين الدينين بالإقصاء للآخر المختلف، فهم ــ كالعادة الأثيرة لدى الشعوب المتخلفة والمهزومة ــ فهموا الأمر بالمقلوب.
أكبر مشاكلنا الحاضرة اليوم هي مشاكل دينية، مشاكل خاضعة لتفسير النصوص، والتموضع في خنادقنا التاريخية، وفي النصوص الدينية نفسها تكمن الحلول، فنحن بحاجة إلى تسوية، إلى صيغة توفيقية للتعايش، وليس إلى زيادة الطين بلة بالهراء السطحي.