أرشيفات التصنيف: عراقيات

بيروت….الجمال المنكسر والبهاء المتواري

علي المعموري

كانت بيروت في زيارتي الأولى لها قبل سنوات محض جمال باذخ، قد تعكره بعض المشاهد المحزنة لحدة الفارق بين الغنى والفقر، أولها ما يصدعك من نافذة الطائرة وأنت ترى منطقة الاوزاعي ــ نسبة للفقيه الكبير رحمه الله ــ وبيوت الصفيح فيها، وخلفها ناطحات السحاب.

العراقيون؛ يبحثون في مشافيها الباهظة عن أمل بالعلاج لعللهم المترعة بالخيبات.

وقد تجد متسولا هنا وهناك.

وقد تزعجك اقتحامية الغجر وهم يعرضون بضائعهم المادية والمعنوية ــ بعد عرض ….. عرضت علي امرأة غجرية أن “تأخذلي خيرة” أي والله خيرة، لي، أنا القادم من النجف! ــ رغم كل ذلك، فإن عينك لن تخطأ الكاذب من الصادق، وقلبك لن يبتعد عن الجمال الذي يحيطك حيث التفت، بشرا وحجرا ونبات.

كانت سوريا وقتها لا تزال دولة آمنة ــ لا تدخلوني بقضية الدكتاتورية رحمة لأمواتكم، فهذا موضوع لا حكم لي بشأنه اليوم ــ، وإنك إن وجدت سورياً في بيروت فهو عامل يكد بشرف لتحصيل قوته، أو… ولكن من غير ذلك الاضطرار الكريه الذي صار البشر إليه اليوم.

زيارتي الأخيرة كانت عبارة عن ألم يضطرم كالرصاص على النار، تتقلب عيناي الموجوعتان على الأطفال السوريين ووجوههم البهية يركضون خلف المارة في الحمرا، الفتيات المؤتلقات حسنا والعجائز المنهكات، يحملن علب اللبان البائسة يتسقطن رحمة المارة بكرامتهن الجريحة.

أحاول أن انتشي بالجمال الذي اتذكره عن بيروت ولا أستطيع، فقبح الفقر، وقبح التهجير، وقبح الانسانية التي تجردت من الرحمة يحاصرني أنّى التفت، أنّى سمعت كلمة خليجية تدعي الترف ولا تستطيعه، أنّى سمعت نبرة متخمة بالدولار تقف خلف الخراب هذا، من عرب وغير عرب، اقلب نظراتي في الوجوه المتوجعة، فلا أرى غير العراق، بنوه “المتهجولين” ومراياهم السورية!

#الأثمان_الباهضة

[الصورة المرفقة بعدستي من سوق مدينة جبيل القديم، شتاء 2013]

الذين يستنزفون الروح

(عجبت لمن لا يجد في بيته الطعام كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه)

أبي ذر الغفاري

هذه الدمعة الغالية

الدمعة التي تحاولين حبسها عن ان تديف بضاعتك البائسة بالأسى فيجفل المشتري عنها

أو لعلك تخشين ان يشعر الغريب الذي يشتري منك بحجم الحزن الذي يعتصر فؤادك المضنى فتصيبينه بحرقة تجدين ان لا ذنب له فيها، وأنه لا يجب أن يشعر بكل الوجع الذي يعصف بروحك

انا اعرف ان اكثر الدائرين على هذا الرصيف الذي اتخذتيه دكة لأساك هم من الكاذبين

ولكن هذه اللوعة التي تعتصر كيانك لا يجيد تصنعها إلا ممثل بارع من بلاد رعاة البقر الغلاظ

وان هذه الحسرة التي تكاد تغطي ما حولك تنبع من قلب ثلمه العراق

العراق الذي يضطر المفجوعين إلى السؤال

والكذابين إلى السؤال

والممثلين البارعين إلى وأد مواهبهم في الاستجداء

عساها بحظكم وبختكم:

ـ القائمون على بيت مال الله، الذي يتبعثر ذات اليمين وذات الخبب

ـ السرّاق القائمون على موارد النجيع الأسود المشئوم الذي ينزفه العراق منذ أزل من المواجع، فيقطع الفيافي والبحار، ليدفأ ذوي البشرة الثلجية، وتزداد ثرواتهم المتوحشة وحشية، وقلوبهم السوداء جلادة، وضمائرهم الميتة خسة، ولا يقبض الجياع منه سوى الألم.

ـ المتخمون بالمال الحرام، الذين ينثرون أوراق الاستعباد الخضراء على الاجساد المعروضة للبيع، وتشح نفوسهم المريضة عن بطون الجياع، وتصاب أعينهم بالقتامة، ويحشو وقر الباطل آذانهم المشوهة.

بغداد، أيتها الجميلة، أيتها الكسيرة:

لا زلت تفقدين كل شيء، وتبدلين كل عاداتك، وتتركين سجاياك القديمة، إلا حرصك على ان يتوجع المتوجعون فيك إلى غاية المدى، وينعم المترفون فيك غاية الترف، لتصرين على ان تكوني صورة العراق المُسرف بالشحة، المُسرف بالندى كما يقول الجواهري، رحم الله الوائلي، كأني أسمع صوته المثقل بالحزن العراقي الأبدي يقول:

 

بغداد يومك لا يزال كأمسه…………..صور على طرفي نقيض تجمع

يطغى النعيم بجانب وبجانب…………يطغى الشقا فمرفه ومضيّع

في القصر أغنية على شفة الهوى……والكوخ دمع في المحاجر يلذع

ومن الطوى جنب البيادر صرّع…….وبجنب زق أبي نؤاس صرّع

وها أنا، أبكي من قلبي، وقد جلست استمع إلى ما يعذرني عند من يراني باكيا، أجد في المصيبة الحاضرة ما أجده في المصيبة الغابرة

بغداد ــ الكرادة 18/11/2014

[عزيزي اشرف الزبيدي، لكم تذكرتك الليلة، حينما كنا نتمشى ذات ليل بغدادي في الكرادة، وانت تخب بهمة وتفرغ ما في جيوبك لكل سائل يسألك، تكتم الحرق في روحك، ثم تلفت لي وتقول: (كل واحد هذوله ياخذ يوم من عمري من اشوفهم)، وأنا معك، كل واحد منهم، صدق أم كذب، يستنزف روحي ببطء]

المدينة التي تبتعد (2)

علي المعموري

الحلقة الثانية:

(4)

ــ اتَذكُر تلك الايام في الحي الصناعي؟

ــ كنا نملك في محل أبي في الحي الصناعي قفصاً لُحم من أنابيب حديدية قوية، يرتفع عن الارض أكثر من ربع متر، مستطيل، ضلعه الاكبر يقارب المتر والنصف، والاصغر نصف الكبير تقريبا، لعله كان سلة لسيارة حمل ذات يوم.

ــ كان عمال أبيك (نسميهم الصناع) يثبتونه على الارض أمامه، وقد اتخذ مما تيسر مجلسا واطئا، يضعون تلك الكتلة الحديدية المستقيمة التي لا يحملها إلا رجلان على القفص، جسر حديدي يربط بين قاعدتي الاطارات الامامية في سيارة النقل الكبيرة طراز فيات المسماة (OM) ويركب أبوك الاجزاء الغليظة، يستخدم مفكا كبيرا، أحد طرفيه مدبب، وطرف المفك بسمك 4سم، يَستخدم الطرف المدبب في ضبط فتحات الاجزاء على بعضها، يهزها بعنف، وأنت، عديم الوزن، وثلاثة عمال آخرين غلاظ الجسوم، تهتزون على القفص الذي تشبثتم به بقوة مع هزات ذراعي أبيك، مع طرقاته على الاسطوانة الحديدية الرابطة.

ــ عندما سألته عنه قبل أيام، عن ذلك المفك، وأخبرني انه اعطاه لشاب فتح محلا جديدا لتصليح السيارات ــ عندما قرر هو اغلاق محله ــ تألمت، كأني فقدت جزءا من أسرتي، يذكرني بأبي في أزهى أيامه، جسيما، وسيما، تهتز لخطواته الارض، روحه ممتلئة بالحياة رغم الحروب التي خاضها، أبي الذي ترهقه عبائته الثقيلة اليوم، وهو في الستين وحسب.

 

(5)

بالنسبة لشخص مشاء مثلي، كان مشي الليلة الفائتة مؤلما – لروحي وليس لقدمي- مشيت عشرة كيلومترات، ان تمشي بمفردك وأنت مستاء مسبقا فان هذا يعني ان تتذكر كل الاشياء السيئة التي لا تريد تذكرها.

 

(6)

حينما انتقلنا من المدينة القديمة إلى مسكننا الجديد، بعد أن بيع منزل الأسرة القديم، ثم زادت مشاغل الحياة، وصارت مفازات تنقلي داخل المدينة أقل عددا، حتى تباعدت اللقاءات بيني وبين تلك الدروب التي حفظتها قدمي، وحفظت هي وقع خطوي عليها، ورسمت في قلبي لها خرائط ترتبط بشواهد من البنايات كل واحدة منها لها في قلبي أثر لا يمحى.

ــ هل تذكر تلك البنايات الفسيحة، التي شيدت في جوفها قيساريات على شكل حرف (L) يبدأ في شارع ويفتح على الآخر.

ــ كانت بناية السيد عبود شبر، وبناية جابر العبايجي التي صادرتها الدولة بعد اعدامه، واشتراها صديقه الاثير من الدولة، ثم اشتراها مرة ثانية من زوجة صديقه المغدور، كان طريقي إلى المدرسة يمر بهما، الج القيسارية، وسعادة عميقة تجتاحني لهذه (المغامرة) بالمرور في جوف البناية من شارع إلى آخر، مررت بالبنايتين منذ أيام، بعد سنوات من الانقطاع عنهما، فوجدت بناية العبايجي قد أصبحت فندقا، وأغلق منفذيها، وبناية السيد عبود تقاسمها ابناءه، وشطرت إلى أجزاء أغلقت منفذيها هي الأخرى.

ــ ليس هذا وحسب، وجدت منزل أسرة استاذيك أحمد وحامد الصراف، اللذان ترتبط اسرتك، أباك وأعمامك معهما بصداقة عميقة، المنزل الذي مثل لك بموقعه، ومساحته الفسيحة، والأشجار التي تطل من داخله حلما، أنت الذي ولدت في منزل يتقاسمه الوارثون، بمساحة تضيق عن مساكن الدجاج، وجدت الحلم مباعا، وعلى وشك ان يهدم، ليتحول إلى فندق.

ــ ليس هو وحسب، الكثير من البنايات التي عشقتها، وكانت جزءا من أحلام طفولتي تناوشها جشع الوارثين، وغلظة التجار، فهدمت، وغُيب تتابعها الجميل الذي طوق جيد المدينة ذات يوم، وشوه العنق الوضيء الذي كانت عليه،حتى أثقلته الخرسانات المسلحة التي شادت بنايات غريبة على روح المدينة، بعيدة عن ذوقها، مغلفة بالالومنيوم بذوق منحط، التي وإن دلت على عمران مدني بطوابقها الشاهقة التي اعدت لاستقبال زائري المراقد المقدسة، إلا إنها لم تدل على تمدن، ولم تمت بصلة للمدينة.

ـ الحمام الاثري الفخم، ذي الريازة المعمارية المبهرة، بقبته ذات النهاية الزجاجية الملونة، وقسمه العمومي، والخصوصي، البخار الذي يملأ المكان، والرجال ــ اصدقاء أبيك ــ الذين يتضاحكون، يتراشقون بالمياه، والمناشف، يتبادلون الشتائم بينهم كأنها مدائح.

ــ بيع الحمام وهدم معلما معماريا متميزا، لو وجد في أي دولة تحترم نفسها لما هدم.

ــ أي بناء هذا الذي تبكيه؟ الانسان العراقي بذاته يتعرض للهدم، وأنت تبكي البناء!

ــ المنجز العراقي، مثل الانسان العراقي، مستباح بوحشية، ولكني هنا اتحدث عن ذكرياتي البسيطة، الأمشاج التي علقت بين قلبي والمكان، الخطى السعيدة، والكلمات الجذلة، الدروب التي ملأت مخيلتي الطفلة بالصور المبهرة، والافكار الخصيبة، أول إدراكي لسلوك البشر من حولي، تجاربي التي تنمو كالرضيع، يتغذى على ثدي أمه، كانت هذه الطرقات المنهل الذي ورده وعيي، ونما على وقع خطى قاطعيها، وسلوكهم، وتجاربهم، علاقتي بالمكان لم تكن بسيطة أبداً.

يتبع…

وداع…وزيارة

– ها يمه، شو مغبش؟
– رايح لكربلاء.
– زيارة لو تسيارة؟
– لا والله تسيارة، صديقي راح يسافر لمدة طويلة واريد اودعه.
– متروح تزور؟
– ما اتصور، ما الحك.
– لا يمه ميخالف، روح زور، وسلمي على ابا عبد الله، كله أمي تسلم عليك، تكول اكو امهات عيونهن عالباب، منتظرات اولادهن، هن لا يعرفن داعش، ولا يعرفن الجيش، ولا يدرن بالحشد الشعبي، يعرفن عدهن ولد، عمت عيونهن الى أن صاروا زلم، وتالي شالو سلاح، وقسم راحو ويه داعش وقسم راحو ويه الجيش، الامهات شعليهن بالسالفة، الامهات يريدن ولد يلم كُبرتهن، هسا اتغوبرو وراحوا ويه داعش، ضحكوا عليهم، الكترين يصيحون ويدعون بالدين، وأولادهن كلشي ميعرفون، بس الامهات هم كلشي متعرف، بس يعرفن شكد تعبن، وشكد صبرن، جابن عمارهن أمل وحسرة، على كل صوت بالليل يفزن خاف الولد كعد، كله لابو السجاد لَتردهم ليهن مكطعين، ولا مجرمين، ولا خاشين بخطية العالم، خوش يمه، وكل لاخو زينب العباس هم نفس الشي، خوش يمه، كله هالله هالله بالامهات، والله العراقيات خطيه، خوش يمه؟
– الله كريم.
ووجدت متسعا اذهب به الى الشهيدين، وكلي كلام يتململ بين قلبي وشفتي، وما أن وصلت، ومع أول تابوت مكلل بالورود، تتقدمه صورة كل ما فيها يتلألأ، البسمة على الوجه، النجمة على الكتف الذي تجاوز العشرين بقليل، نسيت كل الكلام، صليت، انتظرت كثيرا ان افوه بكلمة، لا شيء، في الأخير، وأنا أهم بالمغادرة قلت لهما:
– أغاتي أنتما، مثل ما كالت أمي.

همسات أخ أواخر الليل

علي المعموري

هذا الفضاء الالكتروني، عرفني على أشخاص اعتز للغاية بمعرفتهم، أفكارهم تملئني احتراما لهم، وفرحا بالصدف التي قادتني إليهم.

احد هؤلاء الرائعين، ممن أتوقف لقراءة كلماته بإمعان، واحترم آراءه بعمق، فوجئت وأنا اتابع حوارا دار بينه وبين شخص آخر بأن هذا الرائع مفجوع، ففهمت ان قلبا بهذه السعة، وأفقا بهذا الاتساع لابد ان ينطوي على فجيعة.

له، وللمفجوعين بأخوتهم، وللذين يمسكون قلوبهم كل لحظة وجلا على أحبتهم، اكتب هذا النص في

هذه الساعات المـتأخرة من الليل وكلي تضرع إلى الجليل ان يحفظ اسرنا من الخبل الطائفي، وان يرحم ضحايانا الابرياء:

همسات أخ أواخر الليل

منذ أول اللحظات التي ميّزت فيها أنك أخي، شعرتُ أنك فعلت نفس الشيء.

منذ ذلك الاكتشاف، الذي تشابكت فيه الدهشة بالروعة بالسعادة كتشابك أصابع الرضيع بأصابع أمه، منذ تلك اللحظة، كنت أخاف عليك قدر ما تخاف علي.

أفرح لك كما تفرح لي.

يجمعنا قلب واحد، يجد فينا ماضيه، وحاضره، ومستقبله.

قلب يطوي الليل واختلاجاته مزيج عجيب من الغرائب، عامر بالحب، يتلظى قلقا من أجلنا، ويمتلأ أملا بنا، يختصر القادم بالآتي بمجرد تناهي وقع خطونا له، هل تحس به وأنت في نأيك الآن؟

هل تشعر بقلب أمك؟

هل تسمع ما يدور بقلبي أنا يا ابن أم؟

هل تذكر حينما كنا نبكي بلوعة ونحن نسمع الوائلي يقرأ من شعره، وصوته يتماسك بصعوبة عن البكاء:

 

يا ثغر الرضعت وياه……….الخوه من ثدايا امي

 

هل تذكر كيف كنا نقرأ على ضوء الفانوس آخر الليالي الباردة أمل دنقل وهو يتسائل:

أعين الغريب كعينا أخيك؟

هل تذكر؟

هل تذكر كل ضحكة خلفها صوتك في قلبي، هل تذكر أول الأسرار التي تشاركناها، أول المخاوف التي لفت روحينا بمخالبها، أول الأفراح التي طوقت عيوننا بجيدها الوضيء؟

العتمة نوافذ، تُطلُ فيها عليَّ بكل الصور التي اتخذْتَها، والصور التي لم يُتح لك قاتليك أن تكونها.

الأبواب ضياء يمتد حيث شاء الله له، وأنت فيه الشعاع الأكثر ألقاً.

أقول لك: مشتاق أنا، مشتاق بقدر رحمة الله، التي لولاها لما وقفت ساعة على أقدامي عقب رحيلك.

أقول لك: ان الدروب عامرة بروحك، لا أستوحش الطرق التي مررتَ بها، ولا التي عاجلتك المنون، فلم تخطر بقامتكَ الشماء على كتفها، أخطوها أنا عنك، وأتخيل فيها عنك أحداث وأحداث، واحتفظ بالذكريات عذبة في قلبي، كأنك عشتها، وكأن همسك يملأها حياةً وبهجة.

أقول لك: إن رحيلك لم يحولني إلى كتلة من الغضب، أقيء رغبة بالانتقام، إن رحيلك جعلني أشعر بمرارة الفقد، وقرّبني إلى الحقيقة.

كم هو أمر محزن أن يكون ثمن الحقيقة باهظا هكذا، أن يكون للسلام درب تملأه الذكريات المفجعة، وبكاء المفجوعين.

إن رحيلك، كما حضورك، ملأ قلبي بالحب، جعل أذني صماء عن أصوات القتلة، لا تسمع إلا همس الأرواح النقية كروحك، ينساب عذبا إلى أذني كالموسيقي التي انطوت عليها ضحكتك، أغلقَ كل درب ضيِّق على صوتي، وفَتح أمامي درب الانسانية على اتساعه.

أودعك قلبي، واستودعك ذاكرتي، كُلي حروف تتركب ولا تأتي بغيرك، لا تصنع غير اسمك، ولا يقودني اسمك لغير الغفران، والمودة، والتسامح، لن أسمح لهم بأن ينتصروا بخبلهم الطائفي عليَّ، فيملئون قلبي بالكره، وهو عامر بك، ممتلئ بحبك، كيف له أن يتسع للكره، وقد فضتَ به حباً؟

أقول لك، والناس على موعد مع ربهم إلى عيد، أقول لك، كل عام وأنت في قلبي نبع لا يغيض زاخره، تمدني بالعزم، وتشد ازري بالمودة، لا تأخذ مني غير الحب، ولا تعطيني غير الحب.

 

المدينة التي تبتعد

علي المعموري

الحلقة الأولى

(1)

هذه المدينة التي يتناقص ما يربطك بها من أشياء كل يوم، المدينة التي شاخت، كأبوك الذي دهمه الوهن فجأة، وصارت الأشياء القديمة تذكرك بقوته، العتلات الصماء الحديدية التي كانت اذرعه تلوح بها كالريشة ذات يوم، وإذا به يجرجر اقدامه مثقل الخطى، كالمدينة التي كانت ذات يوم كل شيء، رغم انها عاشت في شظف وحاجة لكل شيء، اما اليوم، فهي عامرة بكل ما يخطر على بالك، إلا ذاتها.

(2)

اتذكرُ عندما كان العالم يقتصر بدرجة كبيرة على (السور) أو بقاياه بالأصح، في (طرف البراق) المحلة النجفية التي استوطنتها اسرتي منذ اربعمائة عام، العالم الذي اذا اتسع فلن يتجاوز منزل جدي، في حي السواق، ومنازل اعمامي في الجديدة، وكلها تتمركز حول المحور الذي ارتبط وجود النجف به، مرقد الامام علي بن أبي طالب عليه السلام، وظلت بأحيائها القليلة متمركزة على ذاتها، ذاتٌ تشكلت من خليط عجيب، عروبية شديدة بسبب الطابع البدوي لابناء بيوتاتها المنحدرة من العشائر العربية القوية، مدنية قائمة على الدين والتجارة، مغموسة بالتكبر على ابناء المدن الأخرى، واهل الريف ومن ناظرهم، حتى لهجتها تميزت عن باقي لهجات هذه الارض، لهجة قوية المخارج، غليظة، كغلظة أهلها الذين يشربون مياه الآبار، ويتنفسون الغبار المتناثر على طول يومهم، قساة كأرضهم، دون ان ننسى مجالس اللغة العربية فيها وما تركته من تراكيب ومفردات فصيحة في الدارجة النجفية حتى على ألسن المكارين.

(2)

حينما بدأت أقرأ، وأعي ما حولي، واتشرب الثقافة الدينية للمدينة القديمة، كانت صورتها تتسع في روحي لتشمل العالم كله، بما تمتلكه من رصيد روحي وديني، جعلها العاصمة التي تهوى إليها نفوس أتباع إحدى الفرق الاسلامية الكبيرة، فيقصدونها طلبا للعلم، ثم يستوطنها من ينبغ من بينهم، أما البقية فينتشرون في بقاع الارض، وتظل بأزقتها الملتوية حول مرقد الامام حلما أزليا يداعبهم في كل سانحة، ولعب الجدل الفلسفي، والديني فيها دورا في اسباغ تلك الصبغة العالمية، وإن ظل الآخر مبهما لا يُرى إلا عبر الكتب.

ولم يقف الامر عند هذا الحد، رغبة الأحياء فيها، بل تعداه إلى الرغبة في الحصول على السلام في تلك البقعة التي ارتبط اسم واديها بهذا الحلم، السلام، فكانت وادي السلام، حتى قال ابنها علي الشرقي:

فصادرات بلدتي عمائم…….وواردات بلدتي جنائز

(3)

اتجول اليوم على أديم تلك الأزقة التي فرشت بالمقرنص، ولمّا تزل الاتربة تضمخ خدها الأسيل (خد العذراء هو من الاسماء العديدة التي تطلق عليها)، ولكنه ليس كذاك التراب الذي كنت اركض فوقه حافيا، أهم بضرب الكرة الرخيصة، فيصطدم اصبعي بالارض، ليختلط الدم بالتراب بالهدف الضائع، انه اليوم تراب غريب على روحي، اتلفت في الوجوه فلا أميزها، وتضيع لهجتي بين اللهجات الكثيرة، واللغات المتناثرة التي تشتبك على الالسن.

وتتعدد مستويات الضياع…

بين أخوتك الذين يأخذهم العمل منك رويدا رويدا رغم أنهم يسكنون معك في ذات البيت، ويشاركوك ذات الغرفة، بين أصدقائك الذين سافروا، أو الباقين، الذين تمنعهم زوجاتهم من التأخر، او الأكل خارج المنزل، الذين يُلزمهم نشاط اطفالهم على الإياب مبكرا إلى المنازل.

بين ذلك كله، تتزايد غربتك كل يوم، وتُضيِّق عليك الوحدة المساحات التي اتخذتها لنفسك رُحبا منذ كنت.

حتى تلك الفُسح المتخيلة التي تنبع أحلامك منها، تتسلل لها الافكار السيئة، تشيد فيها عشوائيات تناظر تلك التي ملأت مدينتك، وأخذت شكلا اكثر تطورا بعد ان أخذ الوحوش ــ ملاك البساتين ــ بقطع عماتك من النخيل، وبيع مهاجعهن الأزلية التي ارتبط اسم العراق بها منذ ان كان، أرض السواد، التي لم يعد يسودها للناظر البعيد سوى الخراب، والدولة المشغولة بالسلب.

آمرلي… الفجر الذي ننتظر نهاراته

آمرلي

علي المعموري

هل تسمعين تلك الهمسات التي تدب في كل شيء حولنا، تتحرك كالدماء في العروق؟

هل تشمين تلك العطور الغامضة التي تداعب الأرواح بلمسة شفافة كل لحظة؟ عذبة كالمياه بعد (الصيهود)، كالفرات يتمشى منذ آلاف من السنين، شامخاً، يحمل الحياة في عزف لا يكل ولا يفتر.

هل تبصرين ذلك الضوء، ذلك الضوء الذي يبدد العتمة رويدا، كما تغسل دجلة الغبار عن وجه بغداد؟ هل تحسين بنضارته؟ هل تمتلئ روحك من النسمات التي تعانقه وهو يتسلل في الأمشاج وئيداً؟ كالعافية تسري في جسد المريض، يفيق من إغماءته، وتصب عيناه في قلبه صور الأحبة المحيطين به، عيون رفعت إلى السماء أكف تدعوا، أفئدة تتضرع، تريد لنفوسها أن تصير دواءً، أن تصير كل شيء لهذا الذي يمثل لها كل شيء.

إنها أنت، ما غيرك.

إنه الرصاص الذي يلعلع حواليك، تقفين شامخة أزلية كالنخيل.

إنها نساءك التي تملأ المشاجب بالأحبة، وترص الذادة في المتاريس، كأنهن لم ينجبن، ولم يربين إلا لهذه اللحظة التي تتوج بالموت، الموت بكرامة.

إنها رجالك الذين يأبون التزحزح عن مواطئ الأقدام، حتى الجريح الذي يئس من النجاة، يجعل من نفسه قنبلة توقف البرابرة الهمج القادمين من مجاهل التاريخ.

إنها أطفالك الذين لبسوا الرجولة مبكرا، وألفوا البنادق قبل الألعاب، الذين فهموا ضرورة أن يجوعوا، وأن يعطشوا، وأن يفترشوا التراب الصاهد أسرة وثيرة، الذين تذوقوا لذة الكرامة مبكراً.

إنها الخيل التي تحمحم في المعركة، زمجرة الأسود التي تقتحم، الأعاصير التي لا تعرف السدود أمامها حيلة.

إنها الليالي التي كانت عتمتها أهون عليك من الضياء الذي يبصرك بالوجوه الكريهة التي تحيط بك، كل فجر مرَّ بك دون ندى، كل صباح لم تكن الحياة فيه أول ما يطرق أبوابك الساهدة، لم تكن العصافير تعلن مقدم الرزق، ولا الحمائم تهدل للسلام، كانت لعلعة الحرب تصطخب، البارود الذي تسيدت رائحته العفنة المشهد، تمتزج بصيدك الليلي من دماء الهمج، تنتظر الصيد القادم في النهار.

تقفين 83 يوما، كل يوم بسنة، الهمج يحيطون بك، يريدون كسرك، وأنت كالطود لا تتزحزحين عن مواضعك، الرصاصات تقل كل يوم، وأنت لا تزدادين إلا نصرا.

إنني أسمع، وأشم، وأحس.

كأن روحي أتون يلتهب لهفة عليك، يترقبك مع كل ما يخفق نحوي من جوف الليل، أقف ولست بالواقف، وأركض لا كما تركضين، أراك في كل الصور، تنعكس فيك كل الوجوه المحاصرة في مدن العراق.

ثلاثة أشهر والعار يصفعني كل لحظة، أحس بالعراق الذي تبدد، المياه التي تهشم إناؤها وتبخرت الحياة منها.

النجيع الذي يزمجر على أرض ما عرفته، يوما لم يسل فيه على خدها، النجيع الذي يعصف من تخوم الموصل، يخط بمسيره كل الحواضر، والقرى، والبيوت التي في طريقه، يضرب الأنبار، ويوجع ديالى، حتى يصل بغداد ليشوه وجهها النضر، ويجتث صدرها الناهد الذي طالما غنى له (جمال الدين).

ثلاثة أشهر، أجلس قرب المدخنين، أتطفل على نيكوتين المواجع الذي يحلق حول رؤوسهم، والشاي المر، والشتائم التي لا تدع أحدا في طريقها إلا وشجت “يافوخه”.

ثم جئت متألقة، وإذا بي لا أقدر على دموعي، تهرب من مقلتي دون إذن، إنها أنت، أنت الأمل الذي فتح روحي من جديد.

وها أنا أنتظر المدن القادمة، أنتظر لنواعير حديثة أن تهدل بالعراق وحده، أترقبها وقد لطمت البرابرة لطمة أخيرة تختم بها ما كالته لهم خلال الحصار، أنتظر الضلوعية، أن تهب من الأرض ضلوعا تحمي العراق، العلم التي تقف علما لا ينكس.

وبعد؟

أنتظر كل النهارات التي لا تقود إلا إلى الموصل…. الموصل التي إن لم تعد سريعا فلن يسد الثلم الذي أحدثته في كرامتنا شيء.

هل رأيت؟

إنها أنت التي قلت للعراقيين مرة أخرى: ارفعوا الرؤوس، انظروا إلى الأمل الذي يصب كالفجر من السماء، لملموا كرامتكم، فهي أغلى ما تملكون.

كل الطرق، كلها كانت تؤدي إليك، وأنت لا تؤدين إلا إلى الموصل.

أما أنت أيتها الحدباء، فلا تؤدين إلا إلى نفسك، على أمل أيتها البضة.

[الصيهود: هو الأسم الذي يطلق على موسم انخفاض مناسيب دجلة والفرات، بما يعني انقطاع الحياة، ويقابله اسم الخنياب ابان ارتفاع مناسيبها أول الربيع]

سبايكر

علي المعموري

سبايكر

التي لا أريد الحديث عنها

التي بقيت أُكابر حتى قبل أيام وارفض تصديق ان ما جرى فيها قد جرى

واحاول ان اقتنع بزعم من قال انه فيديو مفبرك

ولكن دموع الأمهات أصدق انباءا من الكتب

الحرق التي تتلوى على وجوههن

الحسرات التي تقول كل شيء

الليالي الموحشات التي تمر عليهن، وطيوف الغائبين تنعب في جوانب البيت، تظهر في المرايا، تنبثق في الطعام، تنعكس في المياه.

الغربان التي تصفق اجنحتها المشئومة في أفئدتهن

الاسئلة المغمسة بالمواجع، العيون التي لا تعرف الهجوع، وغارت الدموع في منابعها، الوسائد التي لا تهنأ على فراش، والفراش الذي لا يضم جسدا.

سبايكر

الكوابيس التي لا استطيع ان اتخلص منها

اللعنات التي تطارد السياسيين

والطائفيين

والسفلة

وتجار الفضائيات

العار الذي يضمخ بريق الرتب العالية التي خذلتهم

والسياسيين الذين تاجروا بهم

والسياسيين الذين يلعنونهم

السياسيين الذي ينظرون بعين واحدة

ويسمعون بأذن واحدة

ويعبدون ربهم على حرف

الاوغاد الذين يقولون دم بدم

والأنذال الذين يختلف لون الدم في آماقهم من ضفة إلى أخرى

الصم الذين لا يسمعون النواح، ويغنون “يمه نتلتني العكربة”

الليالي التي تمر علي وأنا أبكي من الشمال إلى الجنوب، أبكي الأحبة الذين حصروا في الموصل

اتحرق للتمدن الذي استباحه التوافه في أم الربيعين.

سنجار التي تقطعت أكبادها في جبل الموت، يترقبون الهلاك مع كل نأمة يرسلها الليل البهيم، يلفها عطش وجوع.

أبكي لدموع “جبارة” واسرته التي تتساقط ثمراتها عن جذعه شهيدا فشهيدا، الغار يكلل رأسه، والحسرة تملأ خافقه.

أبكي لآمرلي، التي تشجر قلوبها في البنادق، وتترس بالمهج، ولا تعد نفسها بغير الشهادة، ترى الموت ولا تشعر بالحياة، تستعذبه كما تستعذب الماء في حصارها.

حديثة التي تأبى ان تركع، تقف منيعة كنواعيرها، دائبة النشيج.

أما الفلوجة التي لا اعرف ما يجري فيها، فتلك حكاية أخرى، لكن ما أفهمه ان هناك أبرياء ينالهم تناوش السلاح وهم لا ناقة لهم ولا جمل.

كربلاء التي تمتد إلى النجف لاجئين، غصات تتراصف على بعضها، وجوه حيارى تتكدس في أماكن الزائرين، قلوب تشخب اسئلة، تجفل مع كل خطوة تضرب على الطريق، عيون تترقب القادمين، لعل بشرى بالعودة تلوح. نازحون من الأنبار يحتمون بحمى الشهيد، شهيد الإصلاح والحياة الكريمة، تتلوى الخوافق تحت الضلوع، يتطلعون إلى فجر يحزمون فيه ارواحهم إلى قراهم.

من تلعفر، تتالى صفوفهم، الحيرة زادهم، والدهشة نميرهم، والناس التي تفتح قلوبها، وصناديقها لهم، ترفدهم بالزاد والدواء قبل أسرهم.

الذين هربوا شمالا، والبنادق التي احتموا بها تمنع عنهم الدواء، وتضيق عليهم سبل الغذاء التي يجمعها لهم نبلاء ملأت قلوبهم لهفة للعدل.

سبايكر

التي تلم كل شيء فيها

ولا شيء منها اليوم

المقابر التي لن تجدها الامهات في الاعياد

لا شيء

عدم وحسب

[اللوحة للفنان العراقي مؤيد محسن]

البريم…. والعراق

علي المعموري

هذا النص هو ما أهلني لأن اكون احد المدونين على منصة مدونات عربية، لم يسبق لي نشره سوى على صفحتي الشخصية، ومن المناسب ان انشره هنا مادمت قد فزت بالمسابقة عبره:

طوال عمري، لم يبرحني الشوق إلى صنف من التمور سوى نوعين، أُفضلهما على الجميع، وآكلهما بلذة، البريم والديري، وهما وان اشتركا بالقساوة والحلاوة إلا ان بينهما فرق كبير، انا بطبيعة الحال افضل البريم على ما عداه، تلك الثمرة الصفراء المشربة بالحمرة ــ ربما لهذا اعشق بشرة النساء المشربة بالصفرة أو بالحمرة، خصوصا إذا كانت بيضاء ــ وهو يختلف عن الديري بدرجة قسوته، حيث  انه يكون مقرمشا، واكثر ليونة.

ولكن ليس هذا ما يميزه عن غيره من التمور، ان ما يميزه حقا هو تلك المباغتة التي يقتحم بها احاسيس آكله، فما ان تقضمه اول قضمة، حتى تكاد تعافه، إذ يبدو مذاقه كالخشب، كالجُمار غير الناضج، ولكن ما ان تقضم قضمتك الثانية، حتى تفاجأ بتلك الحلاوة اللذيذة، الآسرة، التي تزداد لذة مع كل قضمة، وتتعمق في روحك كلما افرز الفم مزيدا من اللعاب، ليمتزج بالثمرة الممضوغة، المضحية، حتى الألم الذي يسببه فتات الثمرة الخشنة لمن ابتلاه الله بالاسنان الحساسة مثلي، فيضل يتألم، ويتلذذ في الوقت ذاته، وحينما تكون كارها للحلويات كالعبد لله، فأن سحر هذا الثمرة التي تجعلك تعشقها يصيبك بالحيرة، مع كل لحظة مؤلمة تقضيها معها، وانت تعاني، وانت تتلذذ، وانت تندمج في الطعم كأنك ترقص، مترنحا في حلقة صوفية.

وعندما اخبر أمي بنظريتي هذه تقول متبرمة: (لهذا هو أغلى انواع التمور التي في السوق).

ان هذا الالم، وهذا المذاق الخشبي الذي تمنحه لك تمرة البريم اول وهلة لا يشبهه سوى الالم الذي يسببه لك بلد البريم الاصلي، العراق؛ البلد الذي يذيقك كل انواع القهر، ويسبغ عليك اصنافا من الوجع، والوحشة، وضيق النفس، ونفاد الصبر، ثم يفاجئك ــ عادة ــ بضربة حنونة من الفرح، قد تكون عابرة، وغير ملحوظة، كأن تكون ماشيا في درب طفولتك عصراً، وتشم فجأة رائحة التراب المرشوش بالماء لتوه، رائحة لا تصدر إلا عن التراب العراقي فيما يزعم الزاعمون.

أو قد يمنحك احساسا بالتجذر، والانتماء، حينما تكون جالسا بين أخوتك، وتراهم يضحكون لضحكتك، ويجمون لوحشتك. ولكن هذا الشعور بالذات يمكن ان تجده في أي مكان، ولكن ما لن تجده، هو ذلك الالم اللذيذ، الذي تمتد جبلته الغرائبية إلى ما ينبت على ارضه من ثمار، وإلى واحد هو اشهر ما تنتجه هذه الارض منها، التمر، والبريم منه بوجه متفرد. يالهذا الوطن الذي يفسد سوية ذائقتك، ويعطب روحك حينما يجعلك تتلذذ بالالم، وتتألم باللذة.

المشكلة التي تبرحني حسرة في هذه اللحظة، ان المذاق المؤلم، القاسي، الذي يؤلم الاسنان الصحيحة، كما العليلة، الذي يواصل الوطن صبه في ارواح بنيه، وانا من جملتهم، لا يريد ان ينقضي، وأن ينتقل إلى المرحلة الثانية، شيء من الحلاوة، شيء من الامل، ثم نعاود جولة الألم مرة أخرى.

 

أشياء لا تراها إلا في مطار عراقي

علي المعموري

على قدر حبي للسفر بالطائرة لم أحب يوماً المطارات، ربما للاجراءات المقرفة الكثيرة التي يمر بها الداخل لها خصوصا في المطارات العراقية، ولأن الحكومة تبدأ بحلبك النقود كالشياه السمينة منذ ان تغادر بيتك متجها نحو المطار (الأكشر)، هذا ما حسبته لوهلة من زمن اسفاري القصير، ولكني اكتشفت أن هناك أمر آخر ربما يكون هو السبب الحقيقي وراء كرهي للمطارات، وهو اني اسافر من مطارات عراقية في الغالب، أو من مطارات يكثر فيها العراقيين.

في السفرات الهوائية التي جربتها، من مطاري النجف وبغداد، لم اجد سوى انماط متكررة من المسافرين العراقيين، نصفهم تقريبا من المرضى، الذين ضاقت بهم عللهم عن الشفاء في أرضهم، فقرروا الاستشفاء في بلاد الله الأخرى، وهؤلاء اغلبهم ممن ضنك نفسه، وباع ما خلفه وما امامه ــ كما يقول العرب ــ لكي يأخذ عزيز إلى أرض لعلها تمد في عمره أيام أخرى، أما البقية فهم خليط ممن يسافر لرؤية ما ينبغي ان تكون عليه حياة الانسان في أرض أخرى لا يوجد فيها ما في ارضنا من موانع للانسانية، أو من أولياء الله المقربين من المسئولات والمسئولين وابناءهم البررة، الذين يسافرون إما على ميزانية الدولة من جيوبنا، أو بما سرقوه، من جيوبنا، أو مهاجر عائد إلى مهجره، يلعن روحه التي استبد بها الشوق المغفل لغبار (ديرته) فجاءها لأيام، ليجد انه لم يعد قادرا على تكييف انسانيته للوجع القذر الذي يبصقه كل شيء في عينيه على هذه الارض، والبقية هم فئة قليلة من عباد الله الفقراء من أمثالي، الذين سهل الله لهم ابن حلال فوضع اسمهم في مؤتمر ما، أو تدريب ما وسافروا.

بالأمس طرت من مطار النجف إلى اربيل، وهذا المطار هو مسقف كبير أشبه بثلاجة ضخمة لخزن الخضروات، يسمع المسافرون على جانبي الترانزيت والدخول فيه أصوات مختلفة لمخلوقات الله، وصنائع مخلوقاته، وجدت نفسي كأني في سوق الشورجة في أزهى أيامه من شدة ضوضاء اصوات البشر المسافرين، وليس الطائرات بطبيعة الحال.

اكثر من نصف المسافرين هم من الإيرانيين، والبقية خليط من خليجيين، وعراقيين بين هارب عائد إلى منفاه، أو مريض يمزق القلب منظره، وتجار، وكسبة، وشباب حداثوين، معقلين ومبرنطين وحاسرين، بين (مدشدش، ومتبنطر)، نساء بالكاوبوي، وبالنقاب، بالعباءة وبالجادر، ضباط يخطرون متمايلين بالنجوم على اكتافهم، شباب يبدون كمن نهض لتوه من النوم، وآخرون يبدون كأنهم قضوا نصف النهار أمام المرآة، كتاكيت بعمر الورد وبالوانها، يتسائلون متعجبين عن المكان، أو عن اشياء لا يعرف اهلهم اجابات عنها، عمال هنود دائبين على مسح الارضيات، موظفين في المطار يجولون بين المقاعد ينادون على الصنف الاكثر بغضا لي، اولئك الذين يتذكرون كل ما عليهم فعله عندما يبدأ النداء بالركوب إلى الطائرة فيختفون، ليبدأ المنادي بالصراخ في طلبهم، دون جدوى.

تختلط أصوات الاطفال وهرجهم، وعبثهم بعواميد تحديد خطوط السير، التي وجدوا فيها لعبة غاية في المتعة، مع أصوات النساء، بين التي تنم على صاحبتها، أو التي تتبادل مغامرات السفرة مع نظيراتها، وبين برم الرجال، وجريهم خلف اطفالهم هنا وهناك ــ من أكثر خلق الله تدليلا لنسائهم هم الايرانيون، تجلس الخانم واضعة رجلا على رجل، والأغا يتراكض ليجلب اطفاله، أو ليشتري لها ما تبرد به قلبها، ثم يحمل الحقائب، ويحمل الاطفال وهي تسير على طولها غير آبهة به ــ مجموعة من الاطفال امامي في قاعة الانتظار الوسطى، التي تقع بين المدخل والبوردينغ وبين قاعات الانتظار والترانزيت، دأبوا على مجموعة من العواميد تلك، مركونة على جنب، يغيرون مساراتها، الغريب ان بنتاً بحدود الرابعة أو الخامسة، مع فتى بعمرها، جعلا همهما ان يعبثا بخطوطسيرها، ويغيران مساراتها، بينما يلاحقهما الاخ الاصغر بإصرار ليعيد الخطوط إلى ما كانت عليه.

ووسط هذا المهرجان والضوضاء، تندلق عليك المشاهد الأكثر إيلاما، مشاهد المرضى الذين يكظون اسنانهم على الالم، منتظرين طائرة الشفاء الموعود.

لقد اثارت قدرة الاطفال على الصراخ استغرابي على الدوام، خصوصا حينما يبكون متألمين، من الغريب حقا ان كائنا صغير الحجم، لا يتجاوز عمره الثالثة يستطيع ان يبكي صارخا، لتسمعه من آخر القاعة الكبيرة، ليطفو صوته فوق الاصوات المتشابكة، التي تنقض وتبرم، ليقع في فؤادك قبل سمعك، يصرخ، (بطني… بطني…)، وانت تتألم معه من اعماقك، اقتربت منه، لا اعرف ما الذي كان الوالدان يضعانه له من ادوية، وفي أي موضع، وبين نظرات المسافرين، الذين يتبرم بعضهم من هذا الذي (يعوي) وينظر اخرون بأسف وحسب، بينما يكتفي فريق بالنظر ببلاهة، وكأن الذي يتأوه أمامهم عدم لا كينونة انسانية له، ولكن الذي يصيبك بشيء من السعادة هو تراكض موظفي المطار ــ العراقيون ــ نحو العائلة المتألمة، يجلبون علب المناديل الورقية، أو ادوية مسكنة، ويستعجل بعضهم عمال تنزيل الامتعة من الطائرة التي ستقل العائلة إلى اربيل، تجمع اكثر من عشرة موظفين بملابس مختلفة حولهم، ولم يغادروا حتى انتهت جلسة التداوي، وهجع الولد الصغير، فانصرفوا متأسفين، مما سمعوه من الوالد عن مرض الطفل، ولم اسمعه متعمدا، ينظر بعضهم إلى بعض متسائلين: لماذا؟

أما انت، وبين هذه الوجوه المختلفة، والنوايا التي تتخذ مسارات متقاطعة، مختلفة، تتساقط على بعضها دون ان تلتقي حتى وإن التقت، تجلس وحيدا، تفكر بكل شيء، تستطلع الوجوه، تتيه في مسيل اسئلتك الجوفاء، عما تعلمه ولا تعلمه، لتنتهي إلى مبدأ الاسئلة ومنتهاها، هذا الوطن المُتعِب والمُتعَب، الوطن المؤلم، الذي لا تريد فراقه، ولا تطيق البقاء فيه، ثم تصمت، وتستمع إلى سعدون جابر يغني من شعر كاظم اسماعيل الكاطع:

بس المضيع وطن…….وين الوطن يلكاه

 

(اللوحة للفنان Alessandro Cau)