أرشيفات التصنيف: عراقيات

المسرحية التي عشتها

كتبت هذه الكلمات قبل عام، ونشرتها على صفحتي في الفيس بوك، ولكن يبدو أن موعد نشرها كان مبكرا، وإنها لا تزال طازجة، ما دمت قد بلغت الثلاثين بالفعل اليوم:

انا من مواليد 1985، قاربت الثلاثين، ولأن هذا الحياة ليست سوى مسرحية كما يقول المرحوم شكسبير، المسرحية التي عشتها يهمني منها ثلاثة:

الامهات:

ان يعشنّ في خوف أبدي منذ الولادة، يضرب بوحشته قلوبهن

ان يؤدين اكثر الادوار عسرا وأبعثها على الالم ان تكون احداهن ابنة ترتعب على أبيها من صفقة الباب، وهي لا ترى في الدنيا كلها حاميا لها غيره.

ان تكون أختا، تهرب الاسرة من القصف، فتطلب من أخوها ان يحمل امه على ظهره، وتسير هي خلفهما، وتقول: اذا جاءت الرصاصة تضربني اولا، ثم تضرب امه، ولا يصيبه منها شيئا.

أن تكون أما، ان تكون كل شيء.

ان يكون القلق العادة، والراحة الاستثناء، ان يلبّسْنَ الحزن، ويستحيين من الفرح.

ان يكنّ آخر من يأكل، وأول من يشبع.

ان يكون للدمع ألفة لا تنقضي مع عيونهن المتعبة، التي تخيط الهم بالاسى على ضوء الفانوس المعتم.

ان يعشنّ في ركض متواصل، من البيت، إلى العمل إلى المقبرة، ثم يأتي البطران ويقول: شيبّت من وكت، اريد اجدد.

ان يقفن في طوابير (الاسواق المركزية) في عز شمس تموز لأجل كيلو سكر.

ان تعيش إحداهن طوال عمرها وهي تحلم بغاية بسيطة كبساطة روحها، ولد يحملها على كتفه حين تموت، وبنت تولول عليها: يا ييمة يا حبيبة.

يا ييمة يا حبيبة

ان يفقدن أبناؤهن بكل الطرق الممكنة:

انفجار

حرب فاشلة

سجن بالغلط

او تجبره على الهجرة لينفذ بروحه، وتظل وحيدة صحبة الببغاء الملعون الذي يردد اسمه كل لحظة في زوايا البيت الموحشة.

الاباء:

ان يحتفظ احدهم من الحرب بكل شيء، حتى انه يرتدي ملابس الصيف بتوقيت الجيش، واردية الشتاء بمواعيد المعسكر.

اما نفسه فقد فقدها منذ اول طابور عرضات صُف فيه على صوت العريف وهو يسب اموات امواته.

الابناء

نحن جيل الحروب الذي لا يتذكر من طفولته صورة عن أبيه سوى رائحة البسطال الحادة يوم النزول، والوجوم الذي يعتصر الوجوه المودعة يوم الالتحاق، وكل ما عداها سراب غير مفهوم.

الصورة للنجف، المدينة التي ولدت فيها، صورة قبل قرنين.

9/ 4/ 2003

عن أي هوية وأي شعب نتحدث؟

اقرأوا معي هذه العناوين رجاءا:

حنا بطاطو، العراق

د. ياسين البكري، بنية المجتمع العراقي جدلية السلطة والتنوع العهد الجمهوري الاول 1958ــ1963 انموذجا.

علي بدر، حارس التبغ (رواية)

د. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، شخصية الفرد العراقي.

هذه عينة صغيرة جدا جدا، يمكن للجميع ان يحصل عليها بنسخ الكترونية أو ورقية، تبيّن كيف (كنا شعب واحد) كما يزعم البعض، هذه المرحلة الحرجة التي غطسنا في قذارتها تتطلب اعترافا بالأخطاء، تتطلب القسوة في نقد ذاتنا الجمعية، وتعرية مشكلة الهوية الوطنية المهتزة، وتداعيات هذه المعضلة، الأمر الذي انتبه له الملك المؤسس فيصل الأول رحمه الله وعمل على احتوائه بصدق، ولكن الذي جاءوا بعده، وبعد انقلاب 1958 بشكل خاص حاولوا ان يقفزوا على هذه الحقيقة وتغطيتها بالشعارات، وليس بالعمل الجاد الصادق على بناء هوية وطنية جامعة، قبل 9/ 4/ 2003 لم يكن العراقييون شعبا واحدا، قد يكونوا متعايشين، ومختلطين مع بعضهم، ولكن لم تكن هناك هوية جمعية، ولا شعور بالانتماء الوطني الى العراق كبوتقة تنصهر فيها ذواتهم العامة، دون ان تزيح ذواتهم الخاصة، انتماء الى الوطن وليس الى الايديولوجيا، دينية كانت أم قومية، وبعد هذا اليوم التعيس، انفجرت الهويات وتشضت لأن الدولة فشلت في احتوائها، بفرض نيتها الصادقة في ذلك، إذ يبدوا ان هناك من السلطات التي تعاقبت بعد 1958 من عمل على تعميق الشرخ في الوجدان الجمعي تجاه الوطن، وفي أحسن الأحوال فإن أفضل ما حدث قبل 9/ 4 ان النظم السياسية المتعاقبة منذ 58 قامت بقمع الهويات الفرعية، او بإلهائها بالأزمات، اليوم نحن بحاجة لمراجعة هويتنا الوطنية، ومحاولة لملمة شتاتها ووصله بالجهد الأول الذي بدأه فيصل الأول.

لا تأخذنكم العاطفة، وحب بلدكم، فتتجاوزون هذه الحقيقة، اعرف ان هذا كلام قاسي، ولكنه يؤلمني أنا قبل أي شخص آخر، ولكنها الحقيقة، شئت أم أبيت.

على أمل بوطن يجمعنا

الصورة لحقل لرز العنبر في الشامية، جنوب العراق، آخر ما يجمعنا على ما يبدو، نخلة، ورز لا يزرع إلا في العراق، وكلاهما مهددان بالانقراض.

ذلك الانكسار العراقي

حال بعض العراقيين ــ وليس كلهم ــ مع الوطن هو كحال أمهاتنا معنا، ينفقن أعمارهن في سبيل ضحكة ترتسم على وجوهنا المكفهرة أبدا، نقسو عليهن فيغفرن، نخطئ فيبررن لنا الخطأ بطريقة عجيبة يعجز عنها ارسطو ومنطقه، مهما ابتعدنا، فسنكون قريبين لأفئدتهن، حاضرين على الدوام بين الجفن والعين، بين الشغاف والأوردة، رغم الخسارات الكبيرة، ورغم الخيبات المتلاحقة.

أليس غريبا أن نكون نحن الأم، ووطننا هو الابن القاسي؟!

ولهذا السبب، فإن هؤلاء العراقيين المعنيين، ومهما ابتعدوا، مهما سعدوا، ومهما التأم من جراحاتهم المزمنة، وصادفوا من مسرات، مهما حدث، فإن هناك شيئا في داخلهم سيظل مكسورا، عصيا على أن تجبره سعادة، أو تلم شتاته فرحة، او أرض جديدة.

سيظل ذلك الألم يعتصرهم وهم يضحكون، مع كل ذكرى تلامس ارواحهم من أبنهم القاسي.

سواء أكان رائحة التراب المرشوش عصرا.

أو صورة التوابيت المتلاحقة، ملفوفة بالعلم القاسي، تغذ السير بهمة نحو وادي السلام في النجف، أو نحو مقبرة أبي غريب.

مهما تناسوا، مهما ابتعدوا

ستظل في القلب غصة

بعض العراقيين، سيظل العراق، على الدوام؛ جرح صعب الالتئام في أرواحهم

بعضهم

الصورة للمصور الفنان العراقي علاء المرجاني

بحر العلوم، وسعد صالح جبر

خلال هذا الاسبوع، توفي اثنين من ابرز وجوه تاريخ السياسة والدين في العراق، بكل الالتباسات العميقة التي تلف هذين الأمرين؛ الدين والسياسة، أولهما سعد صالح جبر، سليل صالح جبر، العصامي الذي بنى نفسه من الصفر حتى صار رئيسا لوزراء العراق، وسميّ سعد صالح جريو، صديق أبيه الأقرب، والثاني هو السيد محمد بحر العلوم، سليل الأسرة العلمية النجفية ذات الثقل الديني والاجتماعي العريق.

ولعلني لا اجد بدا من الاعتراف بقلة معلوماتي عن الأول، فهو لم يظهر في العراق بقوة بعد 2003، وكل عمله، وجهوده تركزت على عراق ما قبل 2003، انفق أمواله الكثيرة على المعارضة العراقية، حتى آخر جنيه استرليني امتلكه، ثم جلس في بيته، يشاهد كيف غنم الآخرون الخزينة، وخرج منها خالي الوفاض إلا من ضميره، لذلك سيكون من الطبيعي لعراقي من جيل الثمانينات، ممن لم يغادروا هذا الوطن الموجع من الطبيعي أن لا أعرف الكثير عن شخص الراحل سعد صالح جبر، إلا ما قرأته عنه، وعن تاريخه، وكل هذه الأمور التي قرأتها لن تكون كافية بالنسبة لي لأكتب عنه رأي واضح وصريح، ولا أمتلك سوى ان اترحم عليه، وقد وفد أخيرا إلى رحمة ربه الكريم.

أما الثاني، فالأمر معه مختلف، نجفي من أسرة نجفية قديمة، لعبت دورا في تاريخ النجف، وتاريخ الفقه الشيعي، الأمور التي نشأتُ ضمن جناحها، وترعرعتُ في كنفها.

كان أسم الأسرة قبل 2003 محاطا بكثير من المهابة، وكثير من الخوف، وكثير من المآسي، فأسرة صغيرة مثل آل بحر العلوم أعدم ثلثي رجالها تقريبا، الامر الذي انطبق على أصهار الأسرة في ذات الوقت، وحلت بالأسرة في نهاية التسعينات مأساة أخرى، حينما سطا أحد جيرانهم على احد منازل الأسرة في حي الأمير في النجف، وقتل الابنة الشابة، ليلحقها بأبيها وأخيها المعدومين.

واختتمت الأسرة أحزانها وكسراتها بوفاة كبير الأسرة، السيد محمد حسين بحر العلوم.

خلال ذلك كله، كنت أسمع بوجل شديد أسماء كبار الأسرة من العلماء ممن أعدموا، كالسيد عز الدين بحر العلوم، الذي قرأت شرحه لدعاء كميل صغيرا ولم أفهم شيئا منه، ولا أذكر اليوم سوى تلك الرهبة التي اعترتني وأنا أقرأ لعالم شهيد شرحا لأكثر الأدعية إثارة للألم بالنسبة لي.

وبعد 2003 أخذ اسم السيد محمد بحر العلوم يتردد في الجرائد، والفضائيات، ولا يزال العراقيون يذكرون غضبه في الجلسة الأولى لإعلان مجلس الحكم وكيف هجم على مذيع العربية، شعرا ونثرا، وجلال الطالباني يستزيده، حيث قال انهم ــ المعارضة العراقية ــ طرقوا أبواب العرب حتى كلّوا ولا مجيب، اتذكر انه قرأ بيت شعر صدره (قرعت باب الدار حتى تكلمت) ولا اذكر العجز، لكنه كان يقول انهم لم يجدوا آخر الأمر ما يخلصهم من صدام سوى أمريكا، وهذا الخراب الذي ستجيء به.

وتعرض الرجل لاحقا إلى عداء التيار الصدري الذي كان معارضا للعملية السياسية وقتها، وسُب الرجل المسن بشناعة، وكُتب اسمه وسط النجمة السداسية على التبليط أمام داره، وعلى جدران الدار، وزاد الطين بلة تصريحاته أبان وضعه حجر الأساس لمشروع المجمع السكني في حي السلام (عام 2005، ولم يكتمل المشروع إلا عام 2013)، دون ان يرد على أحد من مهاجميه أو ممن سبه.

على أي حال، مرّ الراحل بمنعطفات كبيرة في حياته، فهو سليل أسرة علمية ذات زعامة، مما دفعه مبكرا لخط المواجهة، كان وكيلا للسيد محسن الحكيم، وكان أحد أعضاء الوفد الذي ذهب للتفاوض مع عبد الكريم قاسم حول قانون الأحوال الشخصية الذي أصدره عام 1959، وقرأتُ له كتابا يناقش فيه هذا القانون من وجهة نظر اسلامية كتبه بتكليف من السيد الحكيم نفسه.

لاحقا غادر العراق أبان جمهورية البعث، ومن خارج العراق انتظم في سلك المعارضة، وأصدر في ذات الوقت العديد من الكتب، الادبية والدينية والسياسية، وأتاحت له تجربة التعايش مع الآخر المختلف الانتقال إلى أفق أرحب من القدرة على الحوار، وتقبل الآخر، والدعوة إلى التعايش، وأسس خلال غربته معهدا للدراسات انتقل إلى العراق باسم معهد العلمين للدراسات العليا ومقره اليوم في النجف في الشارع الرئيس الرابط بين النجف والكوفة، المعهد الذي رأسه العلامة الدكتور عصام العطية رحمه الله حتى وفاته.

حقيقة، هناك الكثير من الأمور الشخصية التي لا يصح ذكرها، وبعض من الأمور الأخرى التي أثارها الكثيرون على الفيس بوك تعقيبا على نعي بعض الأكارم للرجل المخضرم الراحل إلى رحمة ربه الكريم، ولست هنا بصدد كشف المستور منها، أو النقاش حول حيثيات المعروف من تلك الأمور، ولكني لا أجد في تاريخ الرجل تلك الهالة القبيحة التي يريد البعض أن يكسوه بها عقوبة له على دوره في بناء النظام الجديد، ولعل هذا الرجل بالذات تنطبق عليه مقولة أحد أبطال المشروطة في إيران ــ لا اذكر اسمه بالضبط ــ الذي قال لأحد محدثيه يوما بعد ان التف الشاه على الدستور الذي ناضلوا لإخراجه إلى النور وتجريده من محتواه بألم: ان العنب الذي أردناه زبيبا صار خمرا، كدلالة على حسن النية، وسوء النتيجة.

خلاصة ما أريد قوله، ان الراحل كان متفتحا، قابلا للحوار، مستعد للتعايش مع الآخر، يمد يداً مفتوحة للجميع، ويتعاون مع الجميع، وخصوصا في المجالات الفكرية التي حرص ان يكون معهده حاضنا لمختلف اتجاهاتها السياسية والدينية كما لمست بنفسي، وكما يمكن للجميع التأكد منه عبر قراءة أعداد مجلة (المعهد) وسبر هيئته التدريسية المتنوعة.

وقد كان واحدا من أعز اصدقاء والده أبان وكالته لمرجع النجف في البصرة هو رئيس الديانة الصابئية في العراق كما يقول رشيد الخيون، مما لابد أن ينعكس على الابن، والأمر الأكثر أهمية ان الأسرة لم تكن على وفاق في يوم مع إيران، إيران الثورة خصوصا، ولم يسكن أي من افرادها في ايران، منحازة أشد الانحياز إلى النجف، ومركزيتها الدينية التي يحاول الكثيرين سلبها منها، ولعل هذا أكثر ما يدفعني إلى كتابة هذه السطور الآن، وبقيت الأسرة بعيدة عن المعادلات الإيرانية، والأذرع السياسية الإيرانية، وإن لم ينف ذلك دورها في عراق ما بعد 2003، وما حازته من مكانة سياسية.

لست بمعرض الدفاع عنه، خصوصا انني لم أحتك بالراحل إلا على وجل، كان أبرز معالم ذلك الاحتكاك ما حدث قبل أشهر، قبل ان ينتكس وضعه الصحي، وهو أمر لا أريد الحديث عنه الآن وقد رحل، خصوصا انني لم اكن طرفه الوحيد، ولعل اطرافه الأخرى من اصدقائي راغبين عن ذكره هكذا على الملأ.

رحم الله الراحلين كلاهما، وأحسن نزلهما

علي المعموري

8/ 4/ 2015

 

 

تكريت

 

نحن جيل الهزائم…

وأبناء المنكسرين…

نحن جيل بسيط، أحلامه في أحسن أوضاعها لا تزيد عن كونها إحباطا مزوقا.

فتحنا أعيننا على الحروب، والهزائم، المعنوية على الأقل، كنا ندور في فلك الحرب، وإن لم نبصرها عيانا في كل أوقاتها المشئومة.

ولأتكلم عن نفسي

انا اكره الحرب حد النخاع، وأكره مناظرها، وكلما تعلمت المزيد، عرفت أن أكبر قبائح الحرب هي ما يتلوها، الأمهات الثاكلات، الأرامل، والأيتام الذين لا معيل لهم ولا موّجه يأخذ بأرواحهم في دروب الحياة، ويمنح عقولهم التجربة، وزادها اللازم لاستمرار الحياة.

ورغم ذلك، فها نحن؛ أنا وجيلي ــ الذين لم نعرف النصر منذ أزمنة تبدو أزلية ــ نبكي، وننتفض من الأعماق فرحا ونحن نشاهد الراية القاسية، التي قتل آبائنا تحتها، الراية التي سقتنا الألم، وعلمتنا الألفة مع الوجع، ونحن نراها تتقدم، تطيح بالراية القبيحة، الراية الدموية، المتوحشة القادمة من مجاهل التاريخ، وبطون كتب شيوخ السوء.

انا اكره الحرب.

اكرهها من صميم فؤادي، لأنني أعيش مع آثارها بعدة طرق يوميا، كدارس، كمواطن، وكشخص يعيش في مدينة تضم أكبر مقبرة في هذا الأديم، أتجول فيها، ولا أرى سوى صور الشهداء الشبّان، ولا أسمع سوى نواح أمهاتهم وأراملهم، والدهشة المرتسمة على وجوه أطفالهم.

لهذا كله، استكثرت على نفسي أن أفرح بنصر، نصر تتصدره الراية العراقية، رغم قسوتها.

نحن جيل لم نمتلك الحكمة التي امتلكها آباؤنا وهم يقفزون بين السواتر، يتقون القنابل والرصاص بدعاء أمهاتهم، لم نمتلك الحكمة الكافية التي تجعلنا ننظر أبعد من النصر، لهذا، يا أيها الذين اكتووا بالنار، وعرفوا الأشياء كلها،

اعذرونا إذا فرحنا، لأننا لم نذق النصر منذ وقت لم نعد نذكره.

ولكني أبوح لكم

أنا فرح

أقولها بصراحة رغم خوفي من (ما بعد).

ورغم كل شيء

أنا فرح، لأنني لا زلت احلم بأن تقوم للعراق قائمة، أن تكون له دولة، وأن تتجسد يوما ما طموحات فيصل الأول وأحلامه، وهو يناغي أمثالي، بدولة واحدة، عراقية، قوية، تنموية، قادرة، يحس أهلها بأنهم عراقيون أولا وآخرا، وكل ما عدا ذلك يدور في فلك العراق وأسفل منه.

من أجل كل شهيد

وكل ثاكل

على أمل بغد أفضل

علي المعموري

31 آذار 2015

قحطان السيد زبر

هل تسمعين تلك الأصوات؟

همسات خفيضة، تعلو وتخفت بين لحظة وأخرى.

تسمعها القلوب حينما يسكت ضجيج البشر، حين يكفون عن اللهجة بمتطلباتهم، وتهجع أنانيتهم للحظات، لتشمخ برأسها مرة أخرى، وتظل تلك الأصوات طافية في الضياء، كالورد على المياه.

لابد أن تسمعيها، إنها تقض مضجعي، حتى صرت أرى أصحابها في كل الوجوه، وأسمعها في كل الأصوات، كل لحن، كل صوت عاصف، كل نأمة هادئة، تتراكم في روحي وئيدا، حتى تمسك بحسراتها كل حواسي، وتمنعني من الرقاد.

كيف لك أن لا تسمعيها؟

كيف لكم أن لا تسمعونها؟

ها هي؛ تقدم نحوي كل لحظة، أصوات تبكي الأب، تبكي الأم، تتحرق للمعيل، تبحث عن لقمة تقيم الأود، وثوب يرد عن وجناتها الحر والبرد، تتحرى في النفوس عن بقية من رحمة تتفيأ بها، تتخذها سقفا حيث لا سقف يرتفع على أرواحها الكسيرة، مات الأب هدرا كأي عراقي، وماتت الأم حرقة، وبقيت منهم أمشاج طرية تسعى، أبناء مهيضي الجناح، وجوه تبحث عن السعادة، أصوات تبحث عن أسماع تتلقفها ولا ترد لها الصدى القاسي دون التفات.

هل تسمعين؟

انا أسمعهم، أحس بهم، أراهم.

تلك الوجوه الممتلئة لهفة، المنتظرة للأمل أبدا، كيف يأتي الأمل إذا لم نحضره نحن؟

نحن الذين نستجلب الأمل لهم.

وها أنا ذا، اركض نحوهم، خشية أن لا يجد أطفالي من يركض نحوهم بعدي، كلنا على موعد من سفر لا إياب منه، نترك خلفنا قلوب تلتحف بالشوق لنا، أياد غضة تنتظر منا الحماية والرعاية.

لأقاسمنكم خبز أطفالي، ولحافهم، ولأوزعن الحنان بينكم كأنكم من صلبي، ولأنثرن بينكم الفرحة ما وسعتني القدرة، وما أعانني الله، وفي تلك اللحظة التي يأزف فيها موعد رحيلي، فسأغادر، وعيناي تتقلبان بينكم وبين بيتي، وقلبي عامر بالأمل، زاخر بالرضا، التفت إلى رحمة ربي، ان تشملكم، ان تكونوا في ميزان أعمالي، ان تكبرون، لتجدوا أمامكم وطنا لا حرب فيه، وطن يحنو عليكم كآبائكم، ويذوب فيكم كأمهاتكم، وتذوبون فيه وله، ويا له من حلم عزيز المنال.

 

استذكارا للدكتور الطبيب قحطان السيد زبر اختصاصي جراحة الانف والأذن والحنجرة في النجف، الذي عاجلته المنية فجأة، لم أعرفه يوما، ولكن أن يخرج العشرات من الأيتام في جنازة راحل، يحملون الورود في أكفهم الغضة، ويرفعون لافتة كتبوا عليها (نحن ايتامك يا سيد قحطان) فذلك أمر يستدر دموعي من القلب، ويملأني املا واحتراما.
علي المعموري
26/3/2015

علي المعموري

26/3/2015

كيف تصبح (مثقفا فيسبوكيا) أو دليل الحيران إلى ركوب البعران

هذه الخطوات تشكل باختصار شديد بعضا من الطريق الذي يمكن ان يتبعها (نشطاء الفيسبوك) و(مثقفوه) لكي (يطكون)(١)

1. قبل كل شيء، تسلح بذخيرة من كنايات جماعة سوزان برنار، وتدرب على استخدامها بأشكال مختلفة، وعززها بـ(الفشاير)(٢) والتعبيرات النابية.
2. تجرد عن الموضوعية، وقم بادعائها ببراعة، أي بمعنى لا تنظر إلى الديالكتيك، أو التاريخية التي آل عبرها المجتمع إلى ما هو عليه، وبنفس الوقت هاجم هذا المآل، انتقده، التقط اخطاءه، ولكن لا تحاول فهمها، أو وضعها في سياقها، ولا تجرب إيجاد علاج لها.
3. اشتم بلغة نابية قدر ما تستطيع، هاجم، سفّه، وإياك واللغة الهادئة في الحوار.
4. أضرب على الوتر الحساس، انبش الأمور الأكثر شياعا وتعارك معها، يعني إذا كنت طائفيا اضرب على وتر (الحواضن السنية) وعمم عنوان القتلة المجرمين، أو (المليشيات والجيش الصفوي)، أما إذا كنت ممن فتحت عليهم (الطبيعة) الفتوح، وأدركوا ببراعة (سخف الأديان) و(خواء العقائد) أو الذين سافروا إلى بلاد الغرب الذين قفزوا فجأة إلى الحضارة الغالبة من حضارة متراجعة، دون أن يمتلكوا العقل والقدرة الكافية على فهم أسباب هذا التراجع، أو فهم معالم هويتهم، فسفه عقول الناس، واشتم معتقداتهم، لا تكن موضوعيا وتنتقد باحترام، أو تشجّع على التعايش، اقصف قدر ما تستطيع، فأنت في النهاية رغم ما تتبناه من (إلحاد) و(عقلانية) متعصب آخر بطريقة أخرى وحسب.
5. بسياق متصل بالنقطة السابقة، (بحوش)(٣) في (اليوتيوب) عمن يغذي حجج الضفة التي وقفت عليها، يعني مثلا استمع لشيوخ الفتنة من الطرفين، احفظ حججهم، حاكي لغتهم وتعبيراتهم، استمع لدروس (الفلسفة للمبتدئين)، تابع فيديوهات المتملحدين الجدد، الطازجون، الذين يمتلكون براعة رجال الدين المتعصبين في الهجوم، وأسلوبهم في إلغاء الآخر، وإياك إياك ان تستمع لملحد متمدن يحترم عقائد الآخرين وإن لم يؤمن بها، وإياك إياك ان تستمع لرجل دين فهم الدين وأدرك أهمية الهويات المركبة وضرورتها للحياة والابداع.
6. استثمر المتفق عليه لتعزيز قفزاتك، يعني مثلا، الحرب، التي هي أم الأشياء كلها كما يقول الإغريق، والتي هي أم القبائح كلها، التي تمتد آثارها المباشرة وغير المباشرة، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا لسنوات طوال، تدور في النفوس، وتحرق المستقبل، استثمرها، مرة بالإثراء، كن على طرف بعنف، أو بلا موقف بعنف، مثلا، الحرب الدائرة اليوم في العراق، اقفز على صورة خيام المهجرين، والمأسورين، واقفز على إمكانية ان يزحف الطاعون إلى بيتك الذي يحميه (الحمقى) لتجلس امام حاسوبك تتفلسف برؤوس الجياع، ثم قل انها حرب باطلة، وانكم باطل، وان دينكم باطل، وعقائدكم باطلة، ولا تقدم عن هذا الباطل بديلا، ولا عن الوضع منفرجا.
7. بعد هذا كله، ادخل على صفحات (الطاكين فيسبوكيا) وعلق، ثم ارسل طلبات صداقة، ومع أول منشور حامي تنزله، ويحصل على 50 تعليق، و100 اعجاب، فاعلم انك بحمد الله ــ أو حمد الطبيعة إذا شئت ــ قد صرت مشهورا، وصرت مؤثرا، وصار لك أتباع.

بالمناسبة، الحرب قبيحة، وأقبح منها من يتعامل معها بسذاجة، ما يحدث اليوم، ان هناك سبب ونتيجة، ان هناك مهجرين من بيوتهم، يتصفحون الوجوه بحثا عن ملجأ، وان هناك قتلة يذبحون ويحرقون، وأن هناك على الجانب الآخر مقاتلون، بعضهم كان من النبل في أعلى المدى، وبعضهم شابه الأوائل برد الفعل القبيح، في المحصلة، هذه المهزلة لابد ان تنتهي بطريقة أو بأخرى، أما جنابك الكريم، الخطيب الذي تتاجر بنا، وتنتفخ بأنك مناضل من أسرة مناضلة، مزيحا هذه الصفة عن كل العراقيين الآخرين الذين طحنتهم النظم السلطوية منذ 1958 حتى اليوم، وتسوّق انك النقي الوحيد، والنبيل الفريد، تجعجع دون ان تطحن، مشاكل دون حلول، مواقف آنية دون رؤية مستقبلية واضحة، وطنية منقوصة، فإعذرني، انت خاوٍ تماما، لأنني لا أجد لهذه الحرب القذرة بديلا، ولأنني لا يمكن أن أقف في صف داعش، بنفس الطريقة التي لا أبرر للقتلة فيها مشابهتهم بالفعل، لكني أقف خلف خطوط يتصدرها العراقيون، وليس (جنود الدولة الإسلامية)

هوامش

(١) يقول العراقيون ان فلانا (طاك) بالجيم الفارسية كناية عن الرفعة والثراء.

(٢) الفشاير او الفشار هي التسمية العراقية للشتائم النابية الفاحشة.

(٣) بحرش تعني بالعراقية الدارجة شدة البحث والتنقيب

 

الناس موتى وأهل العلم أحياء

علي المعموري

عندما تكون ماشيا بهمة في الباب الشرقي، قادما من ساحة الطيران، وهواء آب الحار يلفح وجهك بعنف، متجاوزا السيارات المجنونة بصعوبة بالغة، تريد ان تلحق بموعد يتعلق بشأن دراستك، ثم يستوقفك فجأة شرطي من الذين يرابطون هناك فليس لك إلا أن تحوقل، وتسأل الله ان يدفع عنك.

تلك الساعة لا تعرف انك مقبل على تجربة، وعلى تعلم أمر مهم في حياتك، ولتتذكر بأنه رب ناقل علم لك وهو ليس بعالم.

أوقفني الرجل بأدب بالغ وهو يحدق بالاوراق التي أحملها، سألني: “أنت مخلص كلية” أجبته بنعم، وانا ضجر تماما، وقلق في الوقت ذاته، سأل مرة أخرى: “هل يمكن ان ترشدني إلى كلية أو معهد يقبلني، حتى لو أهلي، انا خريج اعدادية صناعة وما أدري وين اروح” أجبته بأنني لا أعرف حقا أين يمكن ان يذهب بشهادته هذه، يمكن ان تقبله كلية إسلامية، فأجابني بأنه يريد ان يذهب إلى كلية إسلامية، وليست مشكلة. وهنا قال لي بأنني ما دمت خريجا جامعيا فانه سيقرأ لي شعرا حول العلم، استعمت بضجر بالغ لما قرأه وهي هذه الابيات:

الناس موتى وأهل العلم أحياء                والناس مرضى وهم فيها أطباء

والناس أرض وأهل العلم فوقهم              مثل السماء وما في النور ظلماء

وزمرة العلم رأس الخلق كلهم                وسائر الناس في التمثال أعضاء

بالرغم من الحكمة التي حملتها الابيات، وحبي للشعر والحكمة، لكنني لم اتفاعل مع الرجل الذي بدا أنه لا يريد ان يعتقني، سألني ما إذا كنت أريد ان أكمل دراستي للماجستير بعد تخرجي، اخبرته انني طالب ماجستير آملا أن ينتهي الأمر، ولكن ما حدث بعدها هو ما صعقني حقا، الآن انا اقف على الرصيف العالي، بينما يقف الرجل دوني على الأرض، مد يده ليصافحني فصافحته ببرود، وإذا به، ودون أن استوعب الموقف يسحب يدي ويقبلها، ويقول: هذه للعلم الذي تحمله!

يا الله لم اتمالك نفسي عن تقبيل الرجل على بيريته الساخنة، ووجهه الذي لوحته الشمس، في موقفه الخطر ذاك، وهو يقبل يد الضعيف؛ طالب العلم الصغير هذا اكراما للعلم، في بلد صار المتعلم يحتقر من يراهم دونه في التخصص العلمي، متصورا أنه هو وحده الذي ملك ناصية الشرف بتخصصه، متناسيا انه لبنة في بناء، في بلد صار نواب الشعب فيه ينظرون بتعالي إلى العلماء، ويبخسون حقوقهم وحقوق المدرسين والمعلمين، في بلد يوقف فيه اصغر منتسب أمني عميد كلية، ليهينه، ويمسح بكرامته الأرض، وإذا بهذا الرجل يلملم خيبتي، ويمنحني أملا بأن هذه الأرض لا يمكن ان تخلو ممن كرّم الله فطرته فصار يدرك قيمة الاشياء، وليذكرني بأمور كنت قد بدأت أطوي عنها بصيرتي على أثر الضربات الموجعة التي تلقتها، أعاد لي الرجل ثقتي بالعلم، وبالعراقي الأصيل الذي يمكن لك أن تجده هنا وهناك في ضل هذا الخراب الاجتماعي الذي نعيشه، وليخبرني بأن أهل الفضل يمكن أن يوجدوا في أكثر المواقف قسوة، وأشدها وطأة.

سيدي النبيل، اقبل يداك القابضتين على السلاح، وروحك التائقة للعلم، نعالك يسمو على هامات الكثير ممن يعلونك رتبة، ممن تآكلت أرواحهم من الظلام، وتبلدت بصائرهم من القسوة، نعالك يسمو على كل القتلة من اليمين إلى اليسار ممن يدعون حب الوطن، ويسمو على الذين باعوا علمهم وطلبوا به الدنيا.

اخوتي واساتذتي الكرام، ارجو منكم ان تساعدوني في معرفة المعاهد والكليات التي يمكن أن تقبل هذا الرجل النبيل على مقاعدها الدراسية، أهلية كانت أم حكومية فهو أجدر بالعلم من آلاف الفاشلين الذي يتقافزون كالقردة في دور العلم، ساعدوني لأكرم هذا الرجل الذي ذكرني مجددا بقيمة العلم، الرجل الذي يتغنى وهو واقف تحت الشمس، وسط السيارات الزاعقة التي لا يعرف أيها سينفجر، دون أن يأبه يترنم قائلا:

الناس موتى وأهل العلم أحياء.

السبت 17 /8 / 2013

تدوينة مسافرة

عادة ما افرح كثيرا بصحبة كبار السن اثناء السفر، لأنني أُمني نفسي ساعتها بالاستماع الى تجارب غنية وآراء استخدمها في قياس آليات تشكل الرأي عند العراقيين، او على الاقل استمع الى حكايات أوسع رصيدي التراثي عبرها، اما اذا اجتمعت التجربة والعلم معا فتلك الغنيمة الكبرى.
ولكن الامور لا تكون كذلك دائما، اليوم جلس جنبي “شايب” صحبة زوجته، جعلني احس انه بسذاجة طفل تمت تربيته في زجاجة، وانه لم يعش اي تجربة ولم ير شيئا في حياته، وخلال الرحلة اقتصر نشاطه إما على التذمر بسذاجة حتى من جباية النقل، او مشاركة زوجته بازدراد اطعمة متنوعة من حقيبة الزوجة، الحقيبة التي بدا انها كالحقائب السحرية التي تمتد الى اعماق سحيقة، عامرة بالاكل و”النمنمات”
في النهاية استسلمت “للهدفون” وشغلت تسجيلي لعزف الاوركسترا العراقية للسمفونية الاولى لمالر يوم الجمعة الماضي.

عن التنمية وتوابعها ومستلزماتها!

وأنت تقلب في صفحة الفيسبوك، يسأل سائل (بطران كلش) ماذا ستفعل لو صرت رئيس وزراء؟
هنا تذكرت الحكاية التي سمعتها عن المرحوم غني عجيمي (آل عجيمي عائلة عربية نجفية، وتلفظ بألف موصولة: آعجيمي).
فقد روي انه كان جالسا مع أبناء طرفه (العمارة) في ديوان الحاج عطية ابو كلل رحمه الله، في ليلة باردة، وكان (حجي آعطية) قد وضع لهم شوالا من التبغ الفل، وتل من أوراق لف السجائر أيام لا فلتر ولا هم يحزنون، قبل زمان (المزبّن).
وبين لهيب الجمرات في (المنقلة) وتشابك دخان السجائر (المثعولة) يصل الى سقف الغرفة ليهرب من كوة فيها لا يلوي على شيء، وبين خبر جاد، وضحكة عابرة، بين وقار الشيوخ ولهفة الشباب، رمى الحاج عطية سؤاله الى غني، الشيخ الثمانيني، الذي قضى عمره حمالا، وحتى موته كان أشهر من حمل المشعل في النجف، عاري إلا من سروال، تتطاير النيران العالقة بالخرق المحترقة على جسده كرذاذ الماء وهو ثابت يدور بالمشعل و(يردس)، وتذهب الاسطورة الى ان تلك النيران المنهمرة كالمطر في الميازيب لم تكن تحرق شعر جسده العاري الأشيب.
سأله (حجي آعطية) بصوته المجلجل:
ــ يغني….. إذا تصير ملك شتسوي؟
فرد غني بسرعة فائقة، مختصرا الأصل في احتياجات كل فقير، وفّر له (عطية) ــ الذي مثّل النظام السياسي حينها ــ التبغ والقهوة، وترك له أبوه دارا يسكنها واطفاله، فلم يحتج سوى قوة يستعين بها على العمل، والقوة تحتاج ما لخصه غني عجيمي بالقول سريعا:
ــ أكثر الطبيخ والتاﭼـينة.