أرشيفات التصنيف: سياسة/اجتماع سياسي

النزاهة في العراق الجمهوري

ملاحظات أولية حول النزاهة، بين السلوك الشخصي والالتزام بالقانون

السؤال الأساس الذي أود طرحه في هذا الموضع هو: هل إن النزاهة المطلوبة من الحاكمين هي منقبة وسلوك شخصي وحسب؟

أم أنها يجب ان تكون سلوكا قانونيا لمن نهض بأعباء الرياسة وتبعات المنصب؟

ان تفحص طبيعة سلوك رجال الحكم في العراق الجمهوري، وطبيعة النظام السياسي، وجره للدولة وراءه بكل سلبياته أو إيجابياته، سيبين ان الطابع الشخصي كان هو الأساس في السلوك الإداري والسياسي، بعيدا عن الالتزام بالقوانين.

ولعل أول ما يتمسك به محبي وأنصار عبد الكريم قاسم هو نزاهته، وخروجه من الدنيا بدون تركة مالية أو عقارية.

كما ان هناك من يلاحظ أن النزاهة تلك كانت سمة ظاهرة ــ أيضا ــ على أغلب القابضين على السلطة في العراق، حتى وصول صدام حسين إلى المنصب الأول في الحكم، وفي حقيقة الحال لا يمكن نكران ما ذكره الفريق الأول أو الفريق الثاني.

ولتفحص ما أذهب له، من المهم العودة إلى العصر الملكي، حيث سنلاحظ ان ما يفتخر به الشيوعيون، والمعجبين بقاسم من غير الشيوعيين، من نزاهته لم يكن بالأمر الغريب عن رجالات العهد الملكي، الذين تربى قاسم على قيمهم، ونشأ في مؤسساتهم.

ولكن المميز الأساس بين العهد الملكي والعهد الجمهوري ان النزاهة في العهد الأول لم تكن مجرد صفة شخصية نابعة من البيئة والتربية، بل كانت ــ من جانب آخر أكثر أهمية ــ انعكاس لصورة الالتزام بالقانون وتعليمات الدولة.

فكل إنفاق، أو نشاط، أو خطة عمل كانت تتم بقانون، ولست أزعم هنا ان البرلمان في العهد الملكي كان برلمان ملائكة، أو انه نابع من انتخابات حقيقية، فطبيعة الصراع السياسي، وصيرورة بناء دولة حديثة في العراق في ظل الاستقطابات الآيديولوجية التي بدأت تغزو المنطقة بعد بدء الحرب الباردة خصوصا، فرضت أن تتضمن السياسات الحكومية الكثير من التلاعب في الانتخابات، الأمر الذي تطرق له د. نزار توفيق الحسو في كتابه (الصراع على السلطة في العصر الملكي)، وناقش حنا بطاطو جذوره في كتابه المهم (العراق).

ولكن رغم ذلك، فقد كانت للقانون حرمته، وكان القضاء مستقلا، والقضاة لا يساومون، ولا يجاملون، ولا يخضعون لرأي سياسي، ويمكن هنا مراجعة كتاب القاضي فتحي الجواري (سدنة العدالة اعلام القضاء في العراق).

ولكن ما تغير في طبيعة نزاهة الحاكمين في العهد الجمهوري أن العسكر لم يحترموا القوانين يوما رغم نزاهة أغلبهم، وأولهم عبد الكريم قاسم، وأن سلوكهم النزيه كان مجرد طبيعة شخصية نشئوا عليها، ولم يكن انعكاسا لالتزامهم بالقوانين، وبطبيعة الدولة وروحها القائمة على القانون بالأساس.

ففي عهد عبد الكريم قاسم بدأ تدخل السلطة السياسية والفرع التنفيذي بشكل أدق ـــ بعد ان انتهى دور البرلمان نهائيا ــــ في عمل القضاء، وحدث الصدام الأول بين عبد الكريم قاسم وقضاة محكمة التمييز العراقية، وإن لم يتطور كثيرا لأن قاسم كان أكثر نزاهة وأجنح إلى التنظيم وعدم تكسير الأيدي من الذين قبضوا على السلطة من بعده، حيث تناما التدخل إلى ذروته بعد صدور قرار مجلس قيادة الثورة ــ أبان رئاسة احمد حسن البكر للجمهورية ـــ بجعل الأشراف على القضاء من صلاحيات وزير العدل، مما سبب احتجاج قضاة محكمة التمييز، واصطدامهم بوزير العدل ــ للأسف كان الدكتور منذر الشاوي ـــ.

إن طريقة التعامل مع القضاء، والنزاهة التي لم تكن تعبيرا عن التزام بقانون أكثر من كونها خيار شخصي، يبين حجم الفارق بين أنظمة العراق الجمهوري، والعهد الملكي، ويدلل على ان الأخير كان عهد دولة، وإن شابته من الأخطاء ما يشمل أي نظام إنساني آخر، بينما كان العراق الجمهوري عهد حكام شخصنوا النظام في ذواتهم، وليس دولة بما تعنيه الدولة من تجرد.

ولأسأل، كم هو عدد الذين أعدموا لأجل موقفهم السياسي في العهد الملكي؟ باستثناء فهد ورفاقه بطبيعة الحال.

وحتى إعدام سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في خضم تيار الحرب الباردة الجارف، لم يتم برغبة مزاجية، أو بإيعاز من نوري السعيد أو عبد الإله، بل كان بمحاكمة، وبقانون، عكس الفوضى الدموية والمحاكمات الفورية التي برعت بها تيارات العهد الجمهوري، ابتداءا من الشيوعيين وانتهاءا بالبعثيين، محاكم شارع، يقوم متأدلج حزبي نصف متعلم، متسلح بالبندقية لا بالقانون، تنتهي بإصدار حكم سياسي ينفذ بالاعدام ولا شيء سواه.

ثم هزل الأمر للدرجة التي صار القانون مضغة في فم صدام حسين، والذين عاصروه يتذكرون جملته الشهيرة التي كان يعقب بها على طلبات مواطني المناطق التي يزورها، ملتفتا إلى مرافقه صباح ميرزا، بعد أن قرر منح المواطنين مكرمة إعطاءهم جزءا من حقوقهم قائلا: (صباح سويلهم قانون).

إن الدول لا تقوم إلا بالقوانين، والسجايا الشخصية تذهب مع أصحابها، نعم هي جزء لابد من غرسه وتنميته في عملية التنشئة، لأن الدولة في النهاية نظام شامل، يتكون من مزيج من النظم الفرعية، بينها النظام القانوني، والنظام الاجتماعي، الذي يضم الثقافة، والتي تندرج النزاهة ضمن إطارها بالتالي.

ولعلي لست مبالغا إذا قلت أن أول ما خرّب الدولة في هذا البلد كان الزعماء الملهمين، النزيهين، غير الملتزمين بالقانون.

[للاستزادة حول دور محكمة التمييز، من المناسب الاطلاع على هذا المقال: القضاء العراقي سابقاً وحاضراً من منذر الشاوي إلى مدحت المحمود]

 

عن (السن) العراقي الذي كُسِر

يوجد في النجف مصطلح يعبر عن تفصيل معماري خاص بالنجف من دون كل مدائن هذه الأرض، وهو (السن).

ففي النجف وحدها ستسمع عن (السرداب السن) و(البئر السن) و(البالوعة السن ـ مُكرم السامع ــ).

وهذا المصطلح يرتبط بالتكوين الجيولوجي لأرض النجف، التي تتكون من طبقات متعددة من الرمال الدقيقة والخشنة والتراب والصخور وغيرها، حتى تصير ــ بعد ان تحفر ما يقارب العشرين مترا ــ إلى طبقة صخرية غاية في الصلابة سمكها حوالي (10سم)، ويطلق عليها النجفيون اسم (السن).

ويشكل هذا السن ما يشبه الإناء تحت النجف القديمة، يعزل ما فوقه عما تحته، طبقة صلدة غير مسامية، وهنا يأتي دول التفصيل المعماري المعني، فالسرداب السن يقع تحت سردابين فوق بعضهما ويتميز ببرودته صيفا، وحرارته شتاءا، مع وجود بئر المياه، الذي يتصل بآبار الدور المجاورة، مكونا شبكة معقدة من الأنفاق، شكلت لزمن طويل متاريس عصية على من يريد حكم النجف من غير أهلها.

أما البئر السن فهي بئر حفرت جوفها حتى وصل الحفار إلى طبقة السن تلك، فكسرها بقلم من الحديد الصلب، محطما ذلك الإناء، مانحا البئر عمرا لا يفنى ومياه لا تنضب بعدها، كما أن مخزن الفضلات لن يمتلئ أبدا، لأن سنه مكسور، فهو يُنفذ ما يُصب في جوفه إلى التربة تحت طبقة السن، لن يمتلئ أبدا، كما لن يلتئم جرح السن المكسور على الإطلاق.

(رباط السالفة….)

كنت قبل سنوات أحدث أصدقائي عن العراقيين الذين يخرجون في المظاهرات طاعة لشخصية دينية تعمل في السياسة، متحملين لسع الشمس، واعتصار البرد لوجوههم المنهكة، مُقدمين على الموت في سبيل الدفاع عن حرمة قائد سياسي يرون أنها مست، كنت أقول ان هؤلاء يفعلون ما يفعلون لأنهم لا يملكون ما يخسرونه، لا يملكون بيتا، ولا عملا ثابتا، لا يملكون مستقبلا على الاطلاق، وإن كبح جماحهم يتطلب موردا اقتصاديا ثابتا يؤذيهم تعثره، ويؤرقهم ضموره إذا ما خرجوا لأمر مما ذُكر، إذا كان لديهم بيتا يحرصون على سلامته، وسلامة من فيه، فلن يكونوا سهلي القياد، وسيفكرون ألف مرة قبل ان يخالفوا القانون، ويعاندوا الدولة.

هذه المعادلة كنت مقتنعا بجدواها قبل خمس سنوات تقريبا، اليوم اختلف الوضع.

لأن ذلك الذي لا يملك ما يخسره صار اليوم فردا في مؤسسات غير رسمية، تطرح نفسها بديلا للدولة، مؤسسات تمنحه موردا اقتصاديا عبر استخدامه للسلاح، تمنحه سلطة، تربط الموارد التي بدأت تتدفق إلى جيبه باستمرار وجودها، ولن يكون تفكيكها سهلا بملاحظة الدور الذي صارت تلعبه في الجانب العسكري، وبملاحظة انها صارت تؤسس لنفسها رويدا كمكافئ للدولة فيما يخص إيقاع العنف الشرعي.

بعبارة أخرى، انكسر السن، بعد أن مهد صاحب الفخامة والولايات المتحدة، والدول الإقليمية، كافة للحفار بإزالة تلك الطبقات الكثيفة من الموانع الحامية للسن العراقي، فكسر تماما، خصوصا بعد الضربة القوية التي وجهتها داعش لما تبقى من صلابة ذلك (السن)، الذي لا زلت آمل أن لا يكون كالسن الصخري في النجف في عصيانه على الالتئام

20/ 4/ 2015

9/ 4/ 2003

عن أي هوية وأي شعب نتحدث؟

اقرأوا معي هذه العناوين رجاءا:

حنا بطاطو، العراق

د. ياسين البكري، بنية المجتمع العراقي جدلية السلطة والتنوع العهد الجمهوري الاول 1958ــ1963 انموذجا.

علي بدر، حارس التبغ (رواية)

د. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، شخصية الفرد العراقي.

هذه عينة صغيرة جدا جدا، يمكن للجميع ان يحصل عليها بنسخ الكترونية أو ورقية، تبيّن كيف (كنا شعب واحد) كما يزعم البعض، هذه المرحلة الحرجة التي غطسنا في قذارتها تتطلب اعترافا بالأخطاء، تتطلب القسوة في نقد ذاتنا الجمعية، وتعرية مشكلة الهوية الوطنية المهتزة، وتداعيات هذه المعضلة، الأمر الذي انتبه له الملك المؤسس فيصل الأول رحمه الله وعمل على احتوائه بصدق، ولكن الذي جاءوا بعده، وبعد انقلاب 1958 بشكل خاص حاولوا ان يقفزوا على هذه الحقيقة وتغطيتها بالشعارات، وليس بالعمل الجاد الصادق على بناء هوية وطنية جامعة، قبل 9/ 4/ 2003 لم يكن العراقييون شعبا واحدا، قد يكونوا متعايشين، ومختلطين مع بعضهم، ولكن لم تكن هناك هوية جمعية، ولا شعور بالانتماء الوطني الى العراق كبوتقة تنصهر فيها ذواتهم العامة، دون ان تزيح ذواتهم الخاصة، انتماء الى الوطن وليس الى الايديولوجيا، دينية كانت أم قومية، وبعد هذا اليوم التعيس، انفجرت الهويات وتشضت لأن الدولة فشلت في احتوائها، بفرض نيتها الصادقة في ذلك، إذ يبدوا ان هناك من السلطات التي تعاقبت بعد 1958 من عمل على تعميق الشرخ في الوجدان الجمعي تجاه الوطن، وفي أحسن الأحوال فإن أفضل ما حدث قبل 9/ 4 ان النظم السياسية المتعاقبة منذ 58 قامت بقمع الهويات الفرعية، او بإلهائها بالأزمات، اليوم نحن بحاجة لمراجعة هويتنا الوطنية، ومحاولة لملمة شتاتها ووصله بالجهد الأول الذي بدأه فيصل الأول.

لا تأخذنكم العاطفة، وحب بلدكم، فتتجاوزون هذه الحقيقة، اعرف ان هذا كلام قاسي، ولكنه يؤلمني أنا قبل أي شخص آخر، ولكنها الحقيقة، شئت أم أبيت.

على أمل بوطن يجمعنا

الصورة لحقل لرز العنبر في الشامية، جنوب العراق، آخر ما يجمعنا على ما يبدو، نخلة، ورز لا يزرع إلا في العراق، وكلاهما مهددان بالانقراض.

التاريخ وخطورة تلفزته

ربما يكون تحويل الأحداث التاريخية إلى مادة سينمائية او تلفزيونية ــ والدينية منها بالخصوص ــ من أكثر الأمور خطورة.

فالتاريخ بحد ذاته أمر غير متفق عليه، ولعلكم تتذكرون العبارة الشهيرة (التاريخ يكتبه المنتصرون)، أو ما قيل من ان التاريخ ما هو إلا وجهات نظر، تكتب في ظروف معينة، وتخضع لضغوطها الزمنية بدرجة كبيرة، الأمر الذي اختزله مصطفى جمال الدين بالقول مخاطبا بغداد:

وحذار أن تثقي برأي مؤرخ……….للسيف لا لضميره ما يسطر

أما إذا كنا بمواجهة وقائع مقدسة، يتخذ منها الجمهور سواتر، ويعتمدها كنقاط تماس مع الآخر، تعتمد علاقته بالمختلف عليها، ففي هذه الحالة فإن الأمر سيغدو أكثر خطورة.

وتأخذ هذه المشكلة بعدا أكثر حساسية في مجتمع مصاب بعوَز معرفي، ويتلقف دينه من الفضائيات، والشيوخ ذوي المهارة الكلامية، مجتمع يأخذ ما يخبره له مسلسل (يوسف) أو (المختار)، أو (هارون الرشيد)، او (سليمان القانوني) أخذ المسلمات، لا يناقش فيها، ولا يسمح بالنقاش، وكل هذه المسلسلات تخضع لرؤية سياسية، وتستند إلى وقائع تاريخية تم اختيارها بعناية، لتؤدي هدفا معيناً.

فضلا عن ذلك، فإن نقص الوقائع التفصيلية، والأحداث التي يتطلبها العمل الدرامي، وتحتاجها القصة الأدبية لكي تكون مؤثرة، وتحدث الفعل المطلوب، هذا النقص سيتطلب ابتكار أحداث، وتخيّل وقائع، في سياق تاريخ مقدس، الأمر الذي لن يكون سوى تزويرا في النهاية، وتزداد قباحته ضمن المجتمع المتلقف لكل ما يشاهد كما سبق القول.

وفي الواقع، فالمشكلة ليست وليدة اليوم، ويمكن لك ان تجدها ــ مثلا ــ في الأعمال الأدبية التي اتخذت من التاريخ ثيمة روائية لها، فروايات جرجي زيدان عن التاريخ الاسلامي، التي احوجته متطلبات الرواية إلى حشوها بالاشخاص المتخيلين، الذين لعبوا ـ في تلك الروايات ــ دورا في التاريخ الإسلامي بالغ الخطورة، وهم في واقع الحال لم يوجدوا إلا في خيال جرجي زيدان وحسب، الأمر الذي صُدمت به بعد أن كُلفت شغفا برواياته في يفاعتي، لأكتشف لاحقا انها عبارة عن تدليس تاريخي كبير لا أكثر.

ومشكلة النصوص التاريخية؛ وضرورة نقلها بأمانة وحياد واجهها المرحوم مصطفى العقاد وهو يعد لفيلم الرسالة، فالقصة مقدسة، والوقائع محسوبة، ودقيقة، ولا يمكن له أن يأتي بحدث يفيد تصاعد السياق الدرامي من جيبه، فضلا عن حساسيتها، وضرورة أن تكون مرضية لجميع وجهات نظر الفرق الإسلامية، الأمر الذي نجح فيه ــ رحمه الله ــ إلى حد بعيد، حتى انه ذكر ان انتوني كوين وهو يقرأ السيناريو طلب ان يتم تغيير بعض الوقائع، لتكون أكثر درامية، فقال له لا يمكن مستحيل، وهدد كوين بالانسحاب، فقال له انسحب، ليتراجع الرجل ويؤدي الدور إزاء هذا الإصرار.

ثم عاد وأقر بأن الأمر اختلف في فيلم عمر المختار، حيث امتلك مساحة لإيجاد نسق درامي قصصي قد لا يتفق مع الحدث التاريخي تماما، متذرعا بأن قداسة الموضوع في فيلم الرسالة تطلبت تنحية الثيمة الدرامية، الأمر الذي اختلف في قصة عمر المختار، بوصفها نصا غير مقدس.

أما اليوم، حقيقة لا أجد في أي انتاج تاريخي ديني نزاهة العقاد، كل الاعمال التي تنتج في العالم الإسلامي العربي والغير عربي منه، كلها تنطوي على رسالة سياسية، وتضم وقائع غير حقيقية ــ بكثرة مؤذية ــ لغرض حشو السياق الزمني بالأحداث، على حساب الحقيقة، والتاريخ والصدق، ولا تفعل شيئا سوى صب المزيد من الزيت على نار التوتر الذي يهز المسلمين، وتزيد تموضعهم، وتعمق الخنادق بينهم.

إن هذه الأعمال التاريخية التي تتناول التاريخ الديني، او شبه الديني أعمال توازي بخطورتها المشاكل التنموية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية، وهي كلها تسهم في ضعضعة المنظومة الفكرية التي تستند لها الدولة ــ المهترأة أصلا ــ فالخطأ المعرفي يعمق الجهل، والجهل ينطوي بذاته وكينونته على كل الأسباب الموجبة لانهيار الدول، ومجتمعاتها المؤسسة معها.

 

هل نحن في زمن الإصلاح الراديكالي؟

علي المعموري

لن أتكلم عن الأطفال الذين قضوا نحبهم من البرد، والأمهات اللواتي يتمنين ان يشققن ضلوعهن لضم أطفالهن عن البرد المتوحش المستأسد في خيام النازحين، لن أتكلم، لأنني أعرف أن أي كلام يقال هو محض هراء، لن يدفأ هؤلاء الذين يدفعون ثمن 1400 عام من التاريخ الملغوم، أي كلام يصدر من شخص ينعم بالدفء والأمان سيكون مجردا من أي معنى.

ولن أتكلم عن مقتل صحفيي شارلي ايبيدو، لن انكر الواقعة مثلما انتشرت فيديويات مربكة وصادمة تبين انها واقعة مفبركة، ولن اصدق بها، لن اشجبها، وأتباكى عليها، ليس بسبب ما ذكر، بل لأنني كعراقي أرى أخوتي يوميا يقتلون بسبب آرائهم ومعتقداتهم؛ ولن أشجبها إكراما لأحمد الربيعي الذي لم يجد له صريخا، ولن أشجبها لأن سبايكر، وألبو نمر، والصقلاوية، وغيرها العشرات من المجازر لم توقظ الضمير الأوربي نصف الأصم، ولم تستفز عدالته العوراء، ولم تستفز حكام العرب الأوغاد الذين تصدروا تظاهرة باريس.

ولن انتحب متباكيا مهاجما قيام النظام السعودي بجلد رائف بدوي، الذي أحترم موقفه، وشجاعته، لأنني أؤمن أن هناك ضريبة يجب ان يدفعها صاحب أي رأي، قد تكون رقبته أحيانا وليس ظهره المجلود، ولأن جرائم الأنظمة العربية لم تقف عند رائف، ولأنني لا أعرف الكثير عن الرجل، وما يكتبه، إذا كان ثمة موقف أتخذه، فلن يكون سوى تقديس حرية الرأي والكرامة الأنسانية، حرية الرأي المسؤول، البناء، القائم على المعرفة، وليس الارتجال العاطفي، الرأي الذي يحترم الآخر المخالف له، يحاوره، ولا يهاجمه.

ولكني اكتب هذه الكلمات خصيصا لأنني قرأت كلمات كتبتها أعلامية عراقية معروفة، وشاعرة من مدرسة سوزان برنار هي صابرين كاظم، تتسائل فيها ــ محقة ــ عن  الأصوات الشيعية التي ارتفعت تندد بالنظام السعودي الذي يجلد رائف، ماذا كانت لتفعل لو أن ناشطا تعرض لشخصية من الشخصيات الإسلامية التي تقدسها الشيعة، ماذا كان ليكون موقفهم، وكانت أكثر صراحة حينما تسائلت ماذا سيحدث لمن تناول (مقدسا أثني عشريا).

قبل كل شيء ارجوا معرفة أنني لا اقصد بما سأقوله شخصا بعينه، خصوصا صابرين كاظم، انا هنا اتحدث عن فكر سائد، وأسلوب صار شائعا، منحته مواقع التواصل الاجتماعي زخما كبيرا، أنا هنا أحاور، ولست في موضع الهجوم، ولعل صابرين كاظم كانت تتكلم باحترافية لا تضعها ضمن تيار الشتّامين على الاطلاق، في هذا المنشور خصوصا.

ما أريد أن اناقشه هو التالي: ولماذا يتناول ناشط يريد الإصلاح والتنوير مقدسا جمعيا؟

هل نحن في زمان الإصلاح الثوري؟

هل نحن مهيئون لتغيير فكري راديكالي؟

نحن في زمان التطرف.

نحن في زمان التموضع على الذوات الفرعية.

وأي كلمة، أو دعوة، أو رسالة تريد تغيير قناعات تقوم بدرجة كبيرة على أسس عاطفية ستولد ميتة.

ولي أن أتسائل:

هل من الضروري حقا لمن يريد توحيد مجتمع متنوع، ويمر بأزمة وجود (مكوناتية)، هل من الضروري له أن يهاجم مراكز دفاع هؤلاء، أم يعمل على أخراجهم من خنادقهم طوعا؟

نحن في زمن التسويات، وليس الحلول الجذرية.

نحن بحاجة الآن لأن نفهم ضرورة التعايش مع الآخر، تقبله، احترام حدوده، وبناء الثقة معه.

ان دعاة الليبرالية الجدد لا يختلفون في تعصبهم، وتموضعهم الايديولوجي عن المتعصبين الشيعة والسنة، كل واحد منهم يريد أن يلغي الذات الأخرى، ويحل ذاته محلها، الأمر الذي لن ينتقل من طور الحلم إلى الواقع يوما، 1400 عام من الجدل الفقهي والكلامي الذي ندفع ثمنه يوميا يقف شاهدا على ذلك، لم ينتقل أحد من مذهبه إلى المذهب الآخر كنتيجة لهذا الجدل، كل الانتقالات كانت تقف خلفها مواقف وتجارب شخصية، مكنت في مرحلة ما للانتقال الفجائي إلى الضفة الأخرى، أما الذي انتقل من الإيمان إلى الإلحاد مباشرة فقد مرّ بنفس التجربة، بطريقة مختلفة شخصها المفكر العظيم هادي العلوي كما نقلتها أكثر من مرّة هنا، والنتيجة ان أغلب المنتقلين هؤلاء صاروا ملكيين أكثر من الملك، احترفوا الشتيمة، والتبكيت، والهجوم على الآخر، والأمثلة كثيرة.

ماذا تريدون منا؟

وإلى أين تسيرون بنا؟

الجدل، والشتيمة، والتسفيه، والأسماء المستعارة، والمغالطات، كل هذه الأمور لن تنفع، ولن تصلح، ولن تطفئ نارا زيتها يتجدد بلا توقف، بل إن مواقفكم لن تزيد في النار إلا اضطراما.

دعوا الشيعي على شيعيته

والسني على سنيته

والمسيحي على مسيحيته

والصابئي على صبوته.

وعلموهم كيف يتعايشون معا

وكيف يحترمون بعضهم، ويكرمون الآخر عبر إكرام مقدساته، واحترام معتقداته.

ان دعواتكم الانقلابية الحادة لن تمنح الذين يشعرون بالتهديد أمنا، ولن تنتقل بهم من الخنادق إلى العالم الفسيح الرحب.

انتم لم تفهموا يوما ديالكتيك هذا الشعب، جمعيكم، اسلاميون وعلمانيون، قوميون وأمميون، مسلمون وملحدون، كلكم أردتم أن تلبسوا جسما اجتماعيا متخم ثوب لا يلائم مقاسه للأسف، والنتيجة هي ما نحصده اليوم.

أريد أن اقول المزيد، ولكني أطلت بما يكفي

العمارة والدولة المركزية

علي المعموري

تضم الحضارة ــ كمنجز أنساني ــ عدة مستويات تتمظهر عبرها، بعضها غير منظور، غير مادي، كالقيم، والبعض الآخر منظور، كالعمارة.

وقد تميزت الحضارات التي قامت على أرض العراق ــ التي تعد الدولة العراقية وريثة لها بشكل أو بآخر ــ بأنها قامت على أساس الدولة المركزية، كأي دولة نهرية أخرى، سواء في العصور الموغلة في القدم أيام الحضارات الأولى، مرورا بالتطبيقات المختلفة للحكومات الاسلامية، وصولا إلى العصر الحديث.

ومن الملاحظ قديما، قبل عصرنا الحاضر الذي وصل الحد فيه إلى أن العالم صار يقتحم حياتنا عبر هذه الشاشة الصغيرة التي بحجم الكف، الأمر الذي كان مختلفا حتى سنوات ليست بعيد، حينما كانت عاصمة الدولة، أي دولة كانت، تتخذ موقع المُلهم لبقية أنحاء الدولة، بما تشكله من نقطة مركزية لتجمع النوابغ الذين يظهرون في هذه الدولة، والاغنياء، والطبقة السياسية المتنفذة، وعبرها يلج العالم إلى مواطني الدولة، وعبرها يخرجون هم إلى العالم.

لهذا كانت العواصم تشكل نموذجا للتماهي، والتقليد يتمدد إلى بقية أنحاء الدولة، سواء بعمليات تحديث القيم عبر آليات المثاقفة، أو عبر الهيمنة السياسية للعاصمة، بالتأكيد يوجد نماذج لم تكن طيعة وقابلة لان تفقد ذاتها لصالح العاصمة، ولكنها لم تكن قاعدة قدر ما كانت شذوذا.

سأتطرق هنا إلى ملاحظة بسيطة تأخذ جانبا من ولعي بالعمارة، واهتمامي بالمنجز المعماري العراقي كدلالة على استقرار، أو هيجان السياسة.

ففي بغداد، يمكنك ان تلاحظ في بعض المناطق القديمة التي سكنتها النخب شكلا معينا من عمارة البيوت، يختلف سمته من منزل إلى آخر، ولكن تفاصيله الأساس واحدة، أعني خصوصا البيوت التي بنيت بين الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، المنازل التي يمكن لك أن تراها ممتدة على طول شارع أبي نؤاس في الكرادة والجادرية، وعلى ضفتي دجلة في الاعظمية والكاظمية، ومناطق أخرى من بغداد، وهي منازل بنيت بالطابوق البغدادي المميز، الذي لا تكسى جدران المنازل الخارجية معه بالاسمنت وما شاكل من مواد البناء (لا تلبخ)، ولا تصبغ، منازل بنيت سقوفها أيضا بالطابوق والجسور الحديدية (الشليمان)، أبوابها وشبابيكها كانت من الخشب، وهذه المنازل الفارهة اقتصر بناءها في ذلك الوقت على الأثرياء، والمتنفذين في الدولة الحديثة التي لا تزال محدودة الموارد، وهؤلاء يتمركزون في العاصمة، حتى الاثرياء من خارج بغداد، كانوا يأتون إليها، ليستعرضوا ثرواتهم ونفوذهم بطرق عديدة أولها تلك البيوت، ولن تجد نماذج كثيرة منها في بقية المحافظات.

ولكن نمطا جديدا للعمارة بدأ يشيع في بغداد ربما نهاية الخمسينات وما تلاها، حتى منتصف السبعينات ربما، دخلت فيه مواد بناء جديدة، بعد أن زادت الثروات العامة ــ لو صح التعبير ــ وظهرت الطبقة المتوسطة بشكل واضح، نتيجة للتوسع في القطاع العام، وزيادة الموارد المالية للدولة، هذه المنازل بنيت سقوفها بالخرسانة المسلحة، وتميزت بشرفاتها البارزة الخرسانية بسمك (10سم) حول المنزل، المرتكزة على أنابيب حديدية غليظة، ناهيك عن أبوابها الحديدية، وشبابيكها الحديدية المحاطة بمربعات بارزة، وجدرانها المكسوة بالاسمنت، والمصبوغة بلون واحد، هو البني الفاتح وتنويعاته (يسمى في العراق: تبني، من التبن ولونه المميز).

ولأن هناك توسع في عدد القادرين على البناء كما ذكرت، ولأن الدولة صارت أكثر حضورا في حياة المواطن، ولأن السلطة السياسية صارت أكثر قوة، وأكثر هيمنة وسطوة، عبر مركزيتها الشديدة، فإن بغداد بدأت تصدر نمط عمارتها الجديد إلى المحافظات الأخرى، وصرت تجد هذه المنازل، ذات الأنابيب، البنية اللون، في كل محافظات العراق، (على الاقل لاحظت أربع محافظات يوجد فيها هذا النمط من العمارة، في مدينتي النجف، وكربلاء، والحلة، ومؤخرا وجدت نماذجها العديدة في أربيل، وهذه هي المحافظات التي زرتها).

ان هذه العمارة انتشرت بقوة، ولم يكن بالإمكان مقاومتها حتى في المدن التي كانت عصية على التثاقف مع قيم بغداد، كالنجف، التي ظلت حتى زمن قريب متمنعة على أي قيم لا تتساوق وقيمها الخاصة المختلفة عن قيم ما جاورها من محافظات، الأمر الذي تطرقت له في كتابات سابقة.

وحتى في العقدين المجدبين، الثمانينات والتسعينات، من بغداد نفسها شاع نمط عمارة السقوف مزدوجة الأبعاد (دوبل فوليوم)، ثم تمدد إلى بقية المحافظات.

أما اليوم، وبغداد في أضعف حالاتها، ورغم بقاء النظام المركزي على حاله تقريبا، إلا ان السلطة السياسية باهتة، وانتقلت مراكز القوة في صنع القرار السياسي من بغداد إلى مناطق أخرى في العراق، وصارت العمارة في بغداد (هرجة بربدة) كما يقول أهلنا، في ظل هجمة صفائح الالومينوم، والذوق السائب في البناء، فقد فقدت بغداد ذلك التأثير الذي امتلكته يوما، في جملة أشياء أخرى كثيرة فقدتها.

الموضوع يمكن ان يكون طويلا، ولكني أطلت بما يكفي.

[الصورة المرفقة لبيت من بغداد يمثل النموذج الاول من البيوت التي ذكرتها]