كل المقالات بواسطة علي المعموري

متخصص بعلم السياسة، وما يتطلبه من اطلاع على الاقتصاد وعلم الاجتماع والتاريخ والعلوم القريبة الاخرى، مهتم كذلك بالادب والفن، وكل ما يتصل بالحياة والابداع الانساني

جمال الدين الأفغاني

ولد جمال الدين الحسيني الأفغاني في مكان مُختلف عليه بين أن يكون قرية اسعدآباد في أفغانستان أو اسدآباد في إيران ولكن الثابت انه ولد عام 1838 لأسرة علوية حسينية وتوفيه سنة 1897 في اسطنبول.

وفي الزمن القصير الذي عاشه بين التاريخين عاش ثائراً تلح الاسئلة عليه ابتداءاً منذ دراسته المبكرة في بلاده ثم، في النجف، وصولا إلى تحركه على مستوى العالم الإسلامي، نافخاً فيه روح الثورة حتى لقب بموقظ الشرق.

ولا يزال متنازع عليه حتى اليوم بين التيارات المذهبية على جانب، وبين دعاة الدولة المدنية على جانب ودعاة الدولة الدينية على جانب ثالث، هكذا عاش، وهكذا مات.

ولكن أي محاولة لفهم عقيدة الرجل في الثورة لن تكون دقيقة دون فهم موقفه من الدين، والدين الاسلامي بصورة خاصة، لقد كتب في العروة الوثقى ((إن الاصول الدينية الحقة المبرأة عن محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمس وتفضيل الشرف على لذة الحياة وتبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع دائرة المعارف وتنتهي  إلى أقصى غاية من المدنية)).

وكما يقول د. محمد عثمان الخشت ((لقد كان موقف الافغاني من الدين بعامة والاسلام بخاصة ثابتا طوال حياته… وتكشف كتاباته عن إيمان عميق بالدين الاسلامي وجدواه بالنسبة للبشرية… وقد كان لديه يقين بأن الالحاد لم ينتشر في أمة إلا كان سبباً في اضمحلالها وانقراضها)).

ويتجلى الشق الآخر في شخصيته وحياته ومنهجه في عداءه الشديد للانجليز، حيث ان ولادته في مناطق نفوذ بريطانيا، وتحكمها في الدول الاسلامية ــ وهو أمر كلفه منصبه في بلاده ــ واستنزاف بريطانيا لموارد الدول الخاضعة لها جعلته يناصب المصالح البريطانية العداء حيثما توجد، وكيفما تكون، وكان همه الاول إضعاف نفوذ بريطانيا في بلاد المسلمين، هكذا كان شأنه في أفغانستان، ثم إيران القاجارية وفي مصر وأخيراً تركيا.

ويذكر د. علي الوردي ان ثورة التنباك الشهيرة التي نشبت عقب منح الشاه ناصر الدين القاجاري امتياز تجارة التنباك لبريطانيا لتسيطر على تجارته في إيران، وما تبعها من تحريم السيد محمد حسن الشيرازي المجتهد الأكبر للإمامية على الإيرانيين شرب الدخان مما أدى إلى رضوخ الشاه وإلغاء الامتياز، يروي الدكتور الوردي في الجزء الأول من اللمحات ان جمال الدين ذهب إلى سامراء مقر إقامة الشيرازي واجتمع معه بمفردهما وفي ((تلك الساعات الرهيبة)) ــ بتعبير الوردي ــ صيغت الفتوى التي جعلت من شرب الدخان بمثابة محاربة إمام الزمان.

أما الجانب الثالث المتعلق بشخصية الأفغاني فهو تحرره من المذهبية الضيقة وترفعه عن النعرات الطائفية، وامتداد دعوته إلى كل من آمن برسالة النبي محمد (ص) دون الالتفات إلى مذهبه وعقيدته الخاصة، كما انه لم يكن من مهادني القومية أو الداعين إليها، كان مؤمنا بالجامعة الإسلامية والوحدة الاسلامية وضرورة تكاتف المسلمين ضد الاستعمار ــ الانجليزي منه بصورة خاصة ــ وقناعته بأن بالوحدة الاسلامية فقط وتناسي الماضي ستنهض الأمة وتأخذ دورها الطبيعي وتستعيد مجدها.

إلى هذه الأمور مجتمعة تستند دعوة الأفغاني إلى الحركة وتأجيجه لروح الثورة في الأمة الاسلامية.

image007

عادات الأكل في العراق كمخرج للبيئة والثقافة الجمعية

 

إن المتتبع للعادات الغذائية في العراق بالمقارنة مع ما يجاوره من دول خصوصا في بلاد الشام سيجد فرقا كبيرا يستند إلى عدة أسباب بعضها بيئي والبعض الآخر يستند إلى عوامل الانثروبولوجيا الجمعية المتأثرة بالبيئة وبمواريث قيمية أخرى.

ففيما يخص البيئة، سنجد أن طبيعة ظروف الزراعة بالعراق اتسمت بالقسوة، وحاجتها إلى العمل الشاق، ففضلا عما تتطلبه العناية بالنخيل من جهد وتعذيق ومتابعة تامة، فإن نمط زراعة القمح والرز في العراق وارتباط موسم الحصاد مع الأمطار وفيضان دجلة والفرات جعلا العراقي متوترا على الدوام، وبحاجة لبذل جهد مستمر لإقامة السدود، عبر جهد عضلي كبير يحتاج بدوره لغذاء غني بالسعرات الحرارية والبروتينات، وبحاجة لدولة مركزية قوية من جانب آخر تقوم على تنظيم ما سبق.

وسّهل الحصول على ذلك النوع من الأغذية ما حازه العراق من وفرة في الثروة الحيوانية جنبا إلى جنب مع الثروة النباتية الزراعية الأخرى، فكان اللحم والخبز والتمر والدهن الحر (الدهن الحيواني الطبيعي) وجبة أساس في نظام غذاء أغلب العراقيين، لشحة تنوعها بالمحل الأول، ولم يكن للخضروات دور كبير في موائدهم، لأن زراعة الخضروات ارتبطت بدورها بقيمة ثقافية وجدت في العراق تتعلق بالمُزارع الذي يغرسها، حيث ان العراقيين لم يعتبروا الخضروات غذاء، ونظروا إلى زُرّاعها باحتقار، مما قلّص عددهم، وجعلها وجبة تكميلية لموائد الأغنياء وحسب، حيث سنجد مثلاً ان المفكر هادي العلوي يذكر ان المزارعين في الكرادة كانوا يزرعون الفجل، رغم أنهم لا يأكلوه بالضرورة، ولكنهم يفعلون ذلك لبيعه في بغداد حيث يكون أغلى من غيره من الخضروات، ويطلق عليه البغداديون (جاويش الطعام).

على عكس بلاد الشام، حيث امتاز نمط الزراعة فيها بالكثير من السهولة، فأشجار الزيتون لا تتطلب ذلك الجهد البليغ الذي يبذل في رعاية وزراعة النخيل أو القمح والرز في العراق، والحيوانات ليست كثيرة، والخضروات والفواكه متوفرة ومتنوعة، مما جعل من النظام الغذائي الشامي يتكون بالدرجة الأولى من الخضروات.

أما من الجانب الاجتماعي، فلا يمكن إغفال الميراث البدوي الحاث على الكرم والبذل، والذي يجد له الكثير من النصوص الإسلامية المعززة، والحاثة على إكرام الضيف، وإطعام الآخرين، وإن شددت على عدم الاسراف، ولكن العادة المعروفة في قراءة جزء من النص واتباعه بما يخدم الهوى غلبت في هذا الموضع، فالآية الكريمة: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)(الانسان8) لم يُطبق منها سوى جزئها الأول بالغالب، ممتزجا مع ما عرف عن العراقيين من تطرف في السلوك لخصّه الجواهري ببيت في مقصورته يقول:

تريك العراقي في الحالتين………يسرف في شحه والندى

فكانت المبالغة بإعداد الطعام في الولائم هي الصفة السائدة، بحجة إكرام الضيف، أو إبراز سمو نفس المضيف وسماحته، حتى وإن أضر ذلك به وبموارد عيشته، فوضع العراقيون مثلا يقول: (بيع قِدرك ـ إناء الطبخ ـ واشتري قَدرك ـ المكانة والهيبة)، وحتى صار الكرم مرادفا للشجاعة، والإسراف بالموائد سبيلا للزعامة، ويمكن أن أذكر الكثير من أسماء الشيوخ الذين حازوا زعامتهم لقومهم بالموائد، وبتكويم اللحم على البواري وليس في الآنية، ويمكن ان تجد الكثير من المأثورات التي تتحدث عن أسلوب الأكل في العراق.

بقي أن أختم بملاحظة أخيرة، وهي أن العصر الحاضر قلل بدرجة كبيرة جدا من الحاجة إلى الجهد العضلي بدرجة كبيرة، ولكن العراقيون لم يغيروا عاداتهم الغذائية، رغم عدم بذلهم الجهد العضلي اللازم لحرق السعرات التي يكتسبونها من طعامهم الدسم، مما زاد من حالات السمنة، والأمراض المترتبة عليها بشكل كبير.

HOME ملاحظات تأسيسية (الأخيرة)

(3) هل الولايات المتحدة بحاجة لسلاح سري يتلاعب بالمناخ؟

في حقيقة الأمر، فإن الصناعة لم تعد وحدها من يستنزف الأرض، ويفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، بل ان الزراعة التجارية تسهم بدورها بذلك، فتجريف الغابات الكبيرة التي تشكل رئة العالم من أجل زراعة نخيل الزيت، أو فول الصويا على سبيل المثال، أو بيوت زراعة الخضروات المغطاة في أوربا، صارت تضارع الصناعة بالمساهمة بالخراب؛ وبعدة صور، مثل كسر التنوع الأحيائي الضامن للتوازن، واستنزاف الموارد المائية، وزيادة ظاهرة الاحترار وذوبان الجليد في القطبين المنجمدين، مما يجعلنا نتأكد ان ما تتحدث عنه بعض النظريات من امتلاك الولايات المتحدة لمشاريع تسليح تقوم على استغلال المناخ، وإحداث تغيرات في درجات الحرارة بفعل إنساني وإن ما تشهده بلداننا من ارتفاع في درجات الحرارة راجع لتلك البحوث السرية أمر ليس باليسير تصديقه، فالولايات المتحدة بما تصنعه من تلوث وتخريب للبيئة تزيد من الاحترار دون الحاجة إلى تخصيص ميزانية مفردة لهذا الأمر.

وخلاصة كل ما مر، أن الانسان إذا ترك لذاته فسيخرب كل ما حوله، وسيقتل كل ما يحيط به وصولا إلى قتل نفسه، وإن القواعد العلمية التي يريد البعض أن يجعل منها أخلاقا غير مقنعة، في ظل الطريقة التي قاد بها الانسان التقدم العلمي إلى اتجاهات تتنافى والروح الأخلاقية التي يجب أن تحكمه، العلم مجرد، وبطبيعته غير محدود، ولا يعترف بالحدود، ولكن الحدود هي أساس الحياة، لأنها تضمن التوازن، التوازن الذي يتطلب منظومة صارمة من القوانين بالنسبة للانسان، سمها أخلاقا، سمها دينا، سمها ما تشاء، ويتطلب للجماد الذي لا يمتلك عقلا يؤهله للانضباط قوة عليا تحكم وضع قواعده، وتنظم سيره وتوازنه، سواء آمنتم بالأديان أم لم تؤمنوا، لكني غير مقتنع ان هذا النظام الدقيق الذي استمر لآلاف السنوات هو نتيجة تجارب كائنات غير عاقلة.

الأديان ومشاكلها لا علاقة لها بالإيمان.

الثلاثاء 30/ 7/ 2015

الصور من الوثائقي

11

HOME ملاحظات تأسيسية

(2) التقدم العلمي: بين جشع الإنسان، والتحرر من القيود الأخلاقية

الملاحظة الثانية، تتعلق بالتقدم العلمي، واستنزافه المفرط للموارد الطبيعية، وهنا أريد الإشارة إلى أمر بالغ الحساسية والدقة، وهو أن عصر النهضة ــ الذي قاد إلى الثورة الصناعية ــ رغم انه نحّى الكنيسة والدين وقواعده جانباً، إلا أنه كان عصر الفلسفة، التي حلّت محل الدين، وأسست للدولة الحديثة وقوانينها ــ كما كتبت مرة هنا ــ وشكلت القواعد الأخلاقية التي أسس لها الفلاسفة كابحاً للتطرف في التجريب العلمي وفق أهواء الإنسان، ولكن ما حدث لاحقا أن الجشع انتصر على الفلسفة والاخلاق، وإن العلم صار مسخّراً اليوم من قبل الشركات الكبرى للمزيد من الاستنزاف للموارد، كنتيجة بديهية لغياب الأخلاق عنه، ثم سخرية بعض العلماء الطبيعيين من المنظومة الفلسفية ومحاولتهم تقديم بديل قيمي يستند للمختبر العلمي، المجرّد والثابت بطبيعة تعامله مع المواد ذات الطبيعة الثابتة، التي لا تتغير إلا بظروف استثنائية، عكس الانسان المتغير بطبيعته، طبقا لإرادته الحرة، وكل هذا قادنا اليوم لنصل إلى موقف صار العلم ضمنه خاضعا لجشع الإنسان بدلا من أن يكون خاضعا للقيم الأخلاقية، سواء جاء بها الدين، أم وضعتها الفلسفة، وصارت القوانين ــ المستندة لمبادئ فلسفية في الغرب ــ تبعا لذلك تطبق في أرض، ويتم تجاهلها في أرض أخرى، بانتقائية تزيح فكرة العدل التي تشكل جوهر القانون، ليهجم أصحاب رؤوس الأموال وشركاتهم العابرة للقارات على الدول المتخلفة، الغنية بالموارد البشرية والطبيعية، بحثا عن الأيدي العاملة والموارد الرخيصة، وبتعسف شديد تحميه الانظمة السياسية في تلك الدول، بعد ان تشددت الدول الأوربية في وضع قوانين حماية البيئة، أو هربا من الضرائب والأجور العالية في الولايات المتحدة، والنتيجة ان هذه الشركات الكبرى التي نشأت في حضن الديمقراطية والحريات، تتحالف مع أكثر الانظمة تخلفا ودموية، وتوفر لها الحماية الدولية، عبر زواج المال والسلطة، لتستمر في استنزاف موارد تلك الدول، فتذهب الأرباح إلى المصارف الأوربية والامريكية مرة أخرى، ويتم تمويل البحث العلمي لأغراض عسكرية أو تجارية، ولا ينال من إنجازاته سوى مواطني ذات الدول الغربية، وجشع القيم الاستهلاكية الذي يستمر باستنزاف الأرض ومواردها، وبذات الوقت يستمر بتغذيته للتخلف والأنظمة الاستبدادية في العالم الفقير، ثم نعود ونلقي باللائمة على شعوب تلك المناطق بمفردها.

ملخص [نمط الحضارة الاستهلاكية الذي نعيشه اليوم هو نمط غربي، نتيجة للانفلات في تغذية التقدم العلمي ليخدم الإثراء الفاحش، بدلا من ان يكون وسيلة لجلب السعادة والتوازن، فالممولون الكبار للبحث العلمي هم الشركات الكبرى، والخاسر الأكبر هي الدول المتخلفة الغنية بالثروات، والتي التفت لها المتوحشين الغربيين وخرّبوا أراضيهم بعد أن قمعتهم القوانين في دولهم الأساس، ومنعتهم من ممارسة وحشيتهم وجشعهم على البيئة الأوربية والإنسان الأوربي، أو بعد ان استنزفت موارد بعض الدول الأوربية التي تم تعدينها ابتداءا من عصر النهضة عدا دول معينة في أوربا مثل النرويج والسويد].

يتبع

(الصور من الوثائقي)

رفع3

 

HOME ملاحظات تأسيسية

أكملت بالامس مشاهدة الوثائقي المبهر (HOME)، الذي يتحدث عن الأرض ومواردها الطبيعية والاستنزاف المفرط المخل بالتوازن الذي تقوم عليه الحياة في هذا الكوكب، بعد أن قبع لسنوات لدي، ولعلي كنت محظوظا بهذا التأخير، فلربما لم أكن لأستنتج هذه الملاحظات، المهمة بالنسبة لي.

وحقيقة الأمر فإن الحديث حول الأفكار التي طرحها الوثائقي يحتاج إلى عدة عناوين تكتب حول هذا الموضوع، ولكن ما أريد الحديث عنه الآن هي الفكرة الأساسية التي قام عليها العمل، وهو التوازن، وارتباطه بالعقل والإرادة الحرة، وعلاقتهما بالخالق آخر الأمر، والملاحظات التي سأذكرها هنا تباعا هي استنتاجي الشخصي، وليست رسالة الوثائقي بذاتها، أفكار استقيتها من الوقائع التي وثقها العمل وحسب.

(1) الخالق والخلق

بين التوازن الغيبي، والقوانين وارتباطها بالارادة الحرة والعقل

يتطرق الوثائقي في أول نصف ساعة تقريبا لتكون الأرض، وتطور ما عليها من عناصر، مركزا على مسألة أساسية هي التوازن الدقيق بين كل شيء، بين الآكل والمأكول، من حيوانات ونبات ومياه وهواء، وكيف ترتبط حياة كل واحد منهما بالآخر، دون الحديث عن الإنسان في هذا الموضع.

هذا التوازن جعلني أفكر، هل إن الحيوانات التي لا تمتلك أثمن ما في الوجود، وهو العقل، تكيّفت بنفسها وعرفت كيف تأخذ مقدار كفايتها بذاتها وهي لا تملك العقل؟

هل إن هذه الدقة المتناهية في التوازن بين الماء والنبات والحيوانات هي نتيجة صدفة؟

وتجارب لكائنات لا تمتلك عقلا؟

على أي حال، لا أريد التوقف هنا طويلا، فالشق الثاني يكمل الفكرة.

أما الإنسان، الذي امتلك العقل، وبالتالي امتلك الإرادة الحرة، التي تشكل خطرا بحد ذاتها، ما دمنا نتعامل مع الانسان، الطماع، الميال بطبيعته إلى الشر، الأناني، الإرادة الحرة التي ستجعل منه يستخدم عقله لتسخير كل ما حوله لمصلحته الشخصية، غير آبه بالطبيعة، ما دامت العواقب الوخيمة تتطلب وقتا طويلا لكي تتجسد، ومن هنا بالذات، وُجدت الحاجة إلى القانون، القانون الذي ينظم إرادته، ويحد من طموحاته، ويوقف عبثه بما حوله، ويكبح أنانيته، فكانت الأديان، وكانت القوانين الوضعية، وسواء لمن لم يؤمن بالخالق الباعث للرسل، أو من آمن، فإن الأديان ستظل بصميمها، مجموعة من القوانين التي تنظم حياة الانسان، وتحفظ توازنه مع بقية المخلوقات، أما تطورها إلى منظومات تخريب فهو أمر منوط بالإنسان نفسه، وإرادته، ولا يتعلق بذات الأديان، خصوصا تلك التي تمتلك المرونة الكافية للتطور والتطوير.

ملخص [الارادة الحرة مرتبطة بالعقل، والحيوانات بلا عقل بحاجة إلى تنظيم إلهي يضبط توازنها، أما الانسان الذي امتلك الارادة الحرة بامتلاك العقل فهو بحاجة إلى قانون يكبحه لأجل التوازن، مرة يكون دينا، ومرة يكون قانونا وضعيا].

(ملاحظة: الصورتان من الوثائقي)

رفع 2

حول النظام الرئاسي

نحن كعراقيين ماهرين بمعالجة رأس المشكلة، وتجاهل أصلها، مما يجعل حلولنا تبدو كمحاولات قطع رؤوس القصب دون اقتلاع جذوره، والتي تنتهي بنموه من جديد، وآخر هذه الحلول العبقرية التي يطالب بها العراقيين الفيسبوكيين هو النظام الرئاسي.

ولو سألت الكثيرين ممن يطالبون به، عما يميز هذا النظام عن غيره، وأن يحددوا بدقة نوع النظام في العراق لما دروا، ولما عرفوا رأس القضية من ذيلها.

1. يحسب الداعون إلى النظام الرئاسي أنه لا يضم برلمانا، وهو السبب الأساس الذي يطالب العراقيون على مواقع التواصل الاجتماعي بالنظام الرئاسي لأجله، فخلال الأعوام الماضية، تضافرت مجموعة من العوامل على تشويه صورة البرلمان كمؤسسة أصيلة في النظم الديمقراطية أمام المجتمع العراقي، وحمّلته بمفرده مسؤولية الخراب الذي ضرب البلد حتى اليوم، رغم ان المسؤولية لا تقع على البرلمان كمؤسسة، ولكن تقاسم تخريب صورته نواب قدموا له بأسس المحاصصة، وتداعيات التشظي العراقي، والخلافات المذهبية العرقية، فنقلوا مشاكلهم إلى البرلمان، وقاموا بتضخيمها، بدلا من العمل على حلها، وزاد في الطين بلة تمدد السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية المتمثلة بالبرلمان خلال ولايتي رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وعمله على رمي الكثير من الأخطاء والاخفاقات التي صدرت عنه على البرلمان، وتنصل الحكومة منها، مع أنها الاكثر سلطانا كأمر لازم للنظم السياسية في العالم النامي، أو المتخلف أو التي تمر بمراحل انتقالية، فبدا أمام العراقيين وكأن مشكلتهم تقبع في البرلمان وحسب.

2. البرلمان العراقي ما هو إلا انعكاس للمجتمع العراقي، أو ما أريد له أن يكون عليه، وخلال السنوات الماضية تعمق الشرخ الاجتماعي لدرجة كبيرة، واعضاء مجلس النواب ما هم إلا نتيجة تصويت ذات المنادين اليوم بطردهم، والسراق، السبابون، المستعرضون بالفضائيات هم نتيجة لصناديق الاقتراع، وللنظام الانتخابي الفاسد الذي جعل هيمنة ذات الوجوه على العملية دائماً.

3. طيب، عن أي نظام رئاسي يتحدث المطالبون به، هل هو النظام الرئاسي المطلق كما في الولايات المتحدة، أم هو النظام شبه الرئاسي كما طُبق في فرنسا؟ والغريب ان البعض يقارن انظمة رئاسية مثل النظام المصري أو الجزائري بالنموذجين الأولين، على ما بينهما من اختلاف واسع، فالنظم الرئاسية في الدول غير الديمقراطية أو المتدثرة بالديمقراطية ــ صندوقراطية ــ ما هي إلا تطبيق لما يطلق عليه الدارسون للسياسة اسم (الرئاسية) حيث يبدو ان النظام الحاكم رئاسي، بينما هو رئاسية، يتفرد بها الرئيس بكل الصلاحيات ويلغي دور البرلمان، مما ينفي صفة الديمقراطية بالتالي، ويجعل مقارنة النظم في العالم النامي بالنظم المتقدمة نكتة سمجة.

4. الرئيس في النظم الرئاسية عموما ورغم صلاحياته الواسعة، إلا انه يظل كما في النظم البرلمانية، مقيد الصلاحيات فيما يخص الإنفاق المالي، وإعداد الميزانية، يقترح القوانين، لكنه لا يمنحها القوة القانونية الملزمة دون موافقة البرلمان، قد يوقفها، ولكنها لا يمنحها القوة للتطبيق، ويخضع لاستجواب البرلمان، وتراجع سياساته هو ووزرائه بشكل دائم من قبل السلطة التشريعية ــ يعني البرلمان وراكم وراكم ــ.

5. الفكرة من تقسيم السلطات عموما هي تهشيم السلطة، وعدم حصرها بيد فرع واحد كإجراء يضمن عدم استبداده، لهذا ظهر التقسيم المعروف للسلطات، تشريعية، تنفيذية، قضائية، وأي مطلب بإضعاف أحداها هو مطلب ينافي الديمقراطية ونظرياتها، شئنا أم أبينا.

6. طيب، كيف سيتم اختيار الرئيس في النظام العراقي الرئاسي الذي تريدون؟ عبر الانتخابات أليس كذلك؟ ولكن وفق أي قانون انتخابي، الاغلبية المطلقة، أم النسبية، أم معادلة سانت لاغ “المخربطة” عفوا المعدلة عراقيا؟ ما يجب أن تتم ملاحظته، أن المشكلة العراقية لا تتعلق بالدرجة الأولى بشكل النظام السياسي المتبع فيه، بل بطبيعة الثقافة السياسية السائدة، والتشظي الهوياتي عموديا، والطبقي أفقيا، الرئيس المفترض سيكون جزءا من حزب، أو طائفة، ولن يكون مقبولا بالنسبة لجمهور الطائفة الأخرى أو الحزب الآخر، لأننا لا نزال في العراق يا سادة، بكل مشاكلنا السياسية والهوياتية.

7. فضلا عن ذلك كله، وبالتتابع مع النقطة السابقة، يجب ملاحظة أمر فائق الأهمية يجعله المتخصصون عادة من أهم أسباب عدم الاستقرار الحكومي والسياسي تبعا له، وهو طبيعة النظام الانتخابي، حيث ان نظام الأغلبية النسبية يقود دائما إلى عدم الاستقرار الحكومي، ويحتاج إلى دولة مؤسساتية قوية لا تهتز كثيرا بالتقلبات الحكومية الدائمة، مثل ما يحدث في إيطاليا وإسرائيل مثلا، بينما تلجأ دول أخرى إلى وضع عتبة انتخابية تسهم في تقليل الكتل القزمية في المجلس التشريعي، وتقود إلى استقرار حكومي عبر تحالف قوي، مثل ما ينص عليه القانون الانتخابي التركي مثلا، أما نظام الأغلبية المطلقة فهو ما يتبع في بريطانيا والولايات المتحدة الذي يقود بالتالي إلى الحزبية الثنائية.

8. النظام العراقي الحالي ليس نظاما برلمانيا تماما، بل نظام هجين، فيه ملمح من النظام الرئاسي برئيس يملك صلاحيات اقتراح القوانين، والاعتراض عليها، بينما هو في صلبه يحاكي النظم البرلمانية، وبطبيعته، وطبيعة الوضع العراقي فهو مجرد صيغة توفيقية بين المصالح المتصارعة، وبملاحظة فشلها فهو غير مجدٍ علميا.

9. مرة ثانية، في النظم السياسية التي تواجه مشاكل التقليدية والتخلف مثل النظام العراقي تبرز مشكلة أساسية، وهي تمدد السلطة التنفيذية على بقية السلطات، وهو ما تبيّن بدرجة واضحة خلال حكومة نوري المالكي، واستفراده بالقرار السياسي، وتأثيره على القضاء وغيره، الأمر الذي لا يزال موجودا ولكن بطريقة مختلفة، لان الدكتور العبادي لم يتسنم منصبه والعراق شبه مستقر كما كان الأمر، بل نصف العراق ضائع، والجيش والشرطة ضعيفان، وقوى الأجهزة الردعية هي أضعف من في الشارع اليوم، والمحافظات تكاد تستقل بقرارها الإداري، فعن أي دولة وأي ترقيع تريدون الحديث؟

10. ان اختزال المشكلة العراقية بهذا الموضوع ما هو إلا تسطيح لها، فالمشكلة العراقية متعددة الأبعاد، سياسية، اجتماعية، اقتصادية، عسكرية، وتواجه تحديات داخلية وخارجية، ضغوطات إقليمية ودولية، ناهيك عن صعوبة تعديل الدستور، وجمع الكلمة على ذلك.

11. اعترف اليوم، وبالاتصال مع آخر النقطة السابقة عن مدى ضلالي السابق، الذي بني على جهلي ونقص المعرفة، فعندما كنت طالبا في المرحلة الأولى عام 2005 بكلية العلوم السياسية كان أساتذتي يحدثونا عن خطأ الطريقة التي كتب بها الدستور، ويحاولون بكل ما أوتوا من تهذيب بذلك الظرف الخطر أن يبينوا لنا القنابل التي زرعت فيه، والتي ستهدد الوحدة الوطنية، وتؤذن بتفجير صراعات لا آخر لها، وخطر تضمينه نصوصا تجعل منه هرما لا يقبل النقض ولا التعديل ولا التغيير، وكنت كغيري من الزملاء مندفعين بحس وطني أو غيره، تشدنا العاطفة إلى الأمل بمستقبل واعد بعد انهيار نظام صدام حسين، وورود بشائر الديمقراطية رغم السلبيات القائمة، فضلا عن التحشيد الطائفي، واليوم تتحقق كلماتهم، لأنها كانت نتيجة لاستقراء علمي، ومواقفنا كطلبة كانت نتيجة لآراء مسبقة، ولأحكام نقاشات المقاهي التي صارت اليوم نقاشا فيسبوكياً، ولا يزال الموقف نفسه يتكرر، الأكاديميين وأهل الخبرة تم تنحيتهم عن الموضوع، ومن دخل من الأكاديميين في معمعة الأحداث اليوم في الغالب يغرد مع رغبات الجهة التي تحميه، وظلت الجماهير تهتف بمزاجها.

12. مشكلتنا ــ باختزال شديد يصل حد الاخلال ــ لا تتعلق بشكل النظام السياسي، مشكلتنا تتعلق بالمجتمع ذاته، بقيمه المؤسسة، وانعكاساتها على الدولة وما تتضمنه من أنظمة فرعية، منها النظام السياسي، نحن بحاجة إلى عقد اجتماعي بعد أن تفككت روابطنا القديمة التي ضمنت حداً أدنى من إمكانية التعايش.

 

20/ 6/ 2015

 

النزاهة في العراق الجمهوري

ملاحظات أولية حول النزاهة، بين السلوك الشخصي والالتزام بالقانون

السؤال الأساس الذي أود طرحه في هذا الموضع هو: هل إن النزاهة المطلوبة من الحاكمين هي منقبة وسلوك شخصي وحسب؟

أم أنها يجب ان تكون سلوكا قانونيا لمن نهض بأعباء الرياسة وتبعات المنصب؟

ان تفحص طبيعة سلوك رجال الحكم في العراق الجمهوري، وطبيعة النظام السياسي، وجره للدولة وراءه بكل سلبياته أو إيجابياته، سيبين ان الطابع الشخصي كان هو الأساس في السلوك الإداري والسياسي، بعيدا عن الالتزام بالقوانين.

ولعل أول ما يتمسك به محبي وأنصار عبد الكريم قاسم هو نزاهته، وخروجه من الدنيا بدون تركة مالية أو عقارية.

كما ان هناك من يلاحظ أن النزاهة تلك كانت سمة ظاهرة ــ أيضا ــ على أغلب القابضين على السلطة في العراق، حتى وصول صدام حسين إلى المنصب الأول في الحكم، وفي حقيقة الحال لا يمكن نكران ما ذكره الفريق الأول أو الفريق الثاني.

ولتفحص ما أذهب له، من المهم العودة إلى العصر الملكي، حيث سنلاحظ ان ما يفتخر به الشيوعيون، والمعجبين بقاسم من غير الشيوعيين، من نزاهته لم يكن بالأمر الغريب عن رجالات العهد الملكي، الذين تربى قاسم على قيمهم، ونشأ في مؤسساتهم.

ولكن المميز الأساس بين العهد الملكي والعهد الجمهوري ان النزاهة في العهد الأول لم تكن مجرد صفة شخصية نابعة من البيئة والتربية، بل كانت ــ من جانب آخر أكثر أهمية ــ انعكاس لصورة الالتزام بالقانون وتعليمات الدولة.

فكل إنفاق، أو نشاط، أو خطة عمل كانت تتم بقانون، ولست أزعم هنا ان البرلمان في العهد الملكي كان برلمان ملائكة، أو انه نابع من انتخابات حقيقية، فطبيعة الصراع السياسي، وصيرورة بناء دولة حديثة في العراق في ظل الاستقطابات الآيديولوجية التي بدأت تغزو المنطقة بعد بدء الحرب الباردة خصوصا، فرضت أن تتضمن السياسات الحكومية الكثير من التلاعب في الانتخابات، الأمر الذي تطرق له د. نزار توفيق الحسو في كتابه (الصراع على السلطة في العصر الملكي)، وناقش حنا بطاطو جذوره في كتابه المهم (العراق).

ولكن رغم ذلك، فقد كانت للقانون حرمته، وكان القضاء مستقلا، والقضاة لا يساومون، ولا يجاملون، ولا يخضعون لرأي سياسي، ويمكن هنا مراجعة كتاب القاضي فتحي الجواري (سدنة العدالة اعلام القضاء في العراق).

ولكن ما تغير في طبيعة نزاهة الحاكمين في العهد الجمهوري أن العسكر لم يحترموا القوانين يوما رغم نزاهة أغلبهم، وأولهم عبد الكريم قاسم، وأن سلوكهم النزيه كان مجرد طبيعة شخصية نشئوا عليها، ولم يكن انعكاسا لالتزامهم بالقوانين، وبطبيعة الدولة وروحها القائمة على القانون بالأساس.

ففي عهد عبد الكريم قاسم بدأ تدخل السلطة السياسية والفرع التنفيذي بشكل أدق ـــ بعد ان انتهى دور البرلمان نهائيا ــــ في عمل القضاء، وحدث الصدام الأول بين عبد الكريم قاسم وقضاة محكمة التمييز العراقية، وإن لم يتطور كثيرا لأن قاسم كان أكثر نزاهة وأجنح إلى التنظيم وعدم تكسير الأيدي من الذين قبضوا على السلطة من بعده، حيث تناما التدخل إلى ذروته بعد صدور قرار مجلس قيادة الثورة ــ أبان رئاسة احمد حسن البكر للجمهورية ـــ بجعل الأشراف على القضاء من صلاحيات وزير العدل، مما سبب احتجاج قضاة محكمة التمييز، واصطدامهم بوزير العدل ــ للأسف كان الدكتور منذر الشاوي ـــ.

إن طريقة التعامل مع القضاء، والنزاهة التي لم تكن تعبيرا عن التزام بقانون أكثر من كونها خيار شخصي، يبين حجم الفارق بين أنظمة العراق الجمهوري، والعهد الملكي، ويدلل على ان الأخير كان عهد دولة، وإن شابته من الأخطاء ما يشمل أي نظام إنساني آخر، بينما كان العراق الجمهوري عهد حكام شخصنوا النظام في ذواتهم، وليس دولة بما تعنيه الدولة من تجرد.

ولأسأل، كم هو عدد الذين أعدموا لأجل موقفهم السياسي في العهد الملكي؟ باستثناء فهد ورفاقه بطبيعة الحال.

وحتى إعدام سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في خضم تيار الحرب الباردة الجارف، لم يتم برغبة مزاجية، أو بإيعاز من نوري السعيد أو عبد الإله، بل كان بمحاكمة، وبقانون، عكس الفوضى الدموية والمحاكمات الفورية التي برعت بها تيارات العهد الجمهوري، ابتداءا من الشيوعيين وانتهاءا بالبعثيين، محاكم شارع، يقوم متأدلج حزبي نصف متعلم، متسلح بالبندقية لا بالقانون، تنتهي بإصدار حكم سياسي ينفذ بالاعدام ولا شيء سواه.

ثم هزل الأمر للدرجة التي صار القانون مضغة في فم صدام حسين، والذين عاصروه يتذكرون جملته الشهيرة التي كان يعقب بها على طلبات مواطني المناطق التي يزورها، ملتفتا إلى مرافقه صباح ميرزا، بعد أن قرر منح المواطنين مكرمة إعطاءهم جزءا من حقوقهم قائلا: (صباح سويلهم قانون).

إن الدول لا تقوم إلا بالقوانين، والسجايا الشخصية تذهب مع أصحابها، نعم هي جزء لابد من غرسه وتنميته في عملية التنشئة، لأن الدولة في النهاية نظام شامل، يتكون من مزيج من النظم الفرعية، بينها النظام القانوني، والنظام الاجتماعي، الذي يضم الثقافة، والتي تندرج النزاهة ضمن إطارها بالتالي.

ولعلي لست مبالغا إذا قلت أن أول ما خرّب الدولة في هذا البلد كان الزعماء الملهمين، النزيهين، غير الملتزمين بالقانون.

[للاستزادة حول دور محكمة التمييز، من المناسب الاطلاع على هذا المقال: القضاء العراقي سابقاً وحاضراً من منذر الشاوي إلى مدحت المحمود]

 

الكدس الأول

(1)

قضيت الشطر الأول من سنوات دراستي الابتدائية في مدرسة الغفاري بمقرها القديم، وهو المقر الذي انتزعته السلطة من جمعية منتدى النشر بعد إغلاقها، الجمعية التي أسسها المجدد المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر، مؤسس كلية الفقه في النجف، حيث كان مقر المدرسة التابعة لها بعد ان توسعت، فبنت الجمعية مدرسة ابتدائية على مساحة مربع سكني كامل (بلوك)، بقينا في مقرها حتى الصف الرابع، ثم انتقلت إلى مقر جديد جنب إعدادية النجف، التي تأسست عام 1925 فكانت ثالث اعدادية تؤسس في العراق.

(2)

كل السنوات الجميلة، الخالية من المسؤولية التي قضيتها تلك الأيام كانت بكفة، واكتشافي لكنز أسأت استخدامه غاية الإساءة بكفة أخرى.

(3)

في طرف المدرسة الجنوبي الغربي، كانت تقبع ثلاث حجرات لم تركب لها أبواب مما يوضع للحجرات عادة، بل ركبت لها صفائح حديدية مبرومة، من تلك التي تركب للمحلات التجارية، ويسمي العراقيون واحدها (فنر)، صفائح مثناة تبرم على محور عمودي مركب عليه زنبرك يسهل طيها وفتحها إلى الأعلى أوالأسفل.

لا اتذكر بالضبط كيف اهتديت لها، خصوصا ان الوصول لموقعها كان يتطلب ان أمر بمكتب المدير وغرف المعلمين، التي كانت تتمركز في الجهة الغربية بطولها، بكل ما تعنيه سلطة المدير، وعامل الإرهاب الذي تشكله للطفل الصغير، الذي قد يتعرض للصفع لو خرق النظام، لا اعرف تماما كيف ولجت لها، ولكني متأكد ان زميل الطفولة حسن أنيس الذي احببته كثيرا ولم اسمع عنه شيئا منذ الابتدائية كان شريكي بذلك الفتح الجريء.

(4)

كان طرف احد (فنرات) الحجرات تلك قد أفلت من السكة التي تحبسه، فولجت لداخل المحل المظلم، إلا من خيوط ذهبية لأشعة الشمع تتسلل من شقوق (الفنر) لتضيء تلك العتمة بنعومة وئيدة، فيختلط الضوء المتسرب برائحة الرطوبة وبقايا رائحة سأغرم بها حتى آخر أيام حياتي، رائحة أحبار الطباعة المتسربة من الكنز، مختلطة بالرطوبة، ورهبة ذاكرة المكان، كدس كبير، تلٌ من الكتب، كتب المناهج القديمة للمدارس العراقية.

(5)

كانت خليطا متنافر الطبائع، متجانس في صلب ذات المعرفة ــ وهل لها ذات؟ ــ، مناهج الخمسينات حتى الثمانينات، كتب الأدب واللغة والمطالعة والنصوص والتاريخ والرياضيات والعلوم إلى آخر أنواع المناهج.

تقبع هناك وحيدة إلا من ذاتها، مهملة إلا مما انطوت عليه من علم، أكاد اليوم أسمع الأصوات التي تنبعث منها كالهمهمة الخفيضة، تتصاعد رويداً مرحبة بالطفل الذي شب وهو يسمع عن مكتبة جده التي لم تظل بعده طويلا، ولم ير من قبل هذا الكم من الكتب مجتمعة معا، كأنها في حفلة، أو كأنها في انتظار جماعي لزوار بدا أنهم لن يعودوا مجددا لتلمس صفحاتها، كما يتلمس العاشق خد حبيبته، كما تتلمس الأم وجنة رضيعها بجذل.

بسرعة خاطفة، حمّلت ما استطعت منها في حقيبتي المدرسية، وخرجت هاربا صحبة حسن، إلى البيت.

(6)

كنت طفلا في أول عهده بهؤلاء الصحب، ولا أعرف كيف ينبغي بي أن اعاملهم، ولهذا، فإن عمتي جلست تتفرج علي وأنا اشرع في مجزرة ورقية، بغياب أمي في المدرسة، التي عادت لتفاجئ بالمنظر المرعب الذي صنعته.

كتب الرياضيات والعلوم كانت تتحول مباشرة إلى صواريخ ورقية وانابيب للقتال بيني وبين أخوتي، أما كتب الأدب والنصوص فكنت أقرأ منها ما استطيع، ثم تلحق بصويحباتها، وأمي تؤنبني، وتحاول ردعي عن هذه المجزرة التي صارت برنامجا يوميا دون فائدة.

(7)

لا يمكن لي اليوم ان اصف المتعة التي منحتها تلك الكتب لي، سواء بعد ذبحي لها وجعلها ألعاب عنيفة، أو وأنا أقرأ ما تيسر في كتب المطالعة والتاريخ من قصص أدبية، وأشعار مختلفة، بعضها لا يزال حتى اليوم في بالي بعد أكثر من عشرين عام ـ يااااااه وصلت إلى تلك المرحلة التي اتحدث فيها عن ذكرياتي قبل عشرون يا أمي ــ لا زالت بعض الأسماء عالقة في ذهني، ولا زالت بعض الكذبات التي سقتها لأصدقائي في (العكد) مستلهما أصولها القصصية من تلك اللمحات الخاطفة.

في تلك الكتب، قرأت أول الأسماء الرنانة التي ستلازمني طويلا بعدها، ورأيت أول صور القادة، والملوك، والفلاسفة، لا زال رأس أفلاطون المرمري، ولحية ارسطو، وأطلس يحمل الكرة الأرضية تلازم مخيلتي.

لا زالت أواني ارخمديس المستطرقة تداعب نظرية فيثاغورس في مخيلتي، رغم كرهي للرياضات، ولا زالت قصيدة شوقي عن الهدهد غضة طرية في ذاكرتي، أقرأها بيتا بيتا بين الحين والآخر.

(8)

لا أذكر المدة التي بقيت خلالها استهلك من تلك الكتب، قبل ان يقبض المدير أ. عدنان علينا، وننال صفعة عامرة رغم أننا من المتميزين الذين لا يداس لهم طرف، ثم تولاها الرجل بالبيع لمن كانوا يصنعون منها أكياسا ورقية تستعمل مرة واحدة أيام الحصار في التسعينات، كانت هناك عربة يسحبها حمار ظلت تؤم المدرسة لأيام قبل أن تأتي على تلك الجموع، التي كنت وحسن سببا في تعكير سكينتها، أو في خلاصها من اللاموت أو اللاحياة!

(9)

رغم ذلك، لا زلت حتى اليوم احتفظ بواحد أو اثنين من تلك الكتب، من كتب المطالعة والنصوص والأدب خصوصا، لا أعرف في أي خزانة مزوية من كتبي يقبعان، لكني أذكر من أحدهما واحدة من أكثر القصص التي أبكت طفولتي الغضة الآخذة بالتماس سبيل أهلي الباكي الحزين، كانت قصة لتشيخوف، اسمها الحصان، عن حوذي توفي ولده بمرض وهو لتوه آخذ بسبيل الشباب، وكل قلب أبيه أمل بأن يقوم بشيخوخته، كان الرجل يتلوى بين لسعات البرد، والثلج الذي يكشط وجهه، وبين حزنه الذي يمزق قلبه، يحاول ان يحدث من يركب في عربته عن مأساته دون جدوى، كان يريد أن يخبرهم كيف كان ولده قويا، يقود العربة بشكل أفضل منه، وكيف مرض، وذوى عوده كالورد عاجله الخريف، لكن أحدا لم يصغ، بل إن شبانا نبلاء صفعوا قفاه ليضحكوا وحسب، وفشل حتى في الحديث إلى ساقي البار عن مأساته، فأخذ كوبه، وخرج ليطعم حصانه، وفي الوقت الذي كان الحصان يلعق (الهرطمان) من كف صاحبه برقة، أخذ الحزن من الحوذي مداه، فانخرط يحكي للحصان مأساته.

(10)

اتذكر في هذه اللحظات تلك الوجبة المبكرة من الحزن، التي قرأتها مرارا وتكرارا، وبكيت لها بشجاعة في طفولتي، ونهنهتها بخجل في شبابي،.

أتذكر تلك الرائحة العبقة اللذيذة التي داعبت حواسي في ذلك المكان الممتلئ كتبا، الذي أسلمني لاحقا إلى أكداس أخرى، ولكن بعد أن صرت ممن يقدسون الكتب، ويأنسون بمجرد الجلوس بين أكداسها.

كيف لي أن انسى، وعبد الرضا الرادود يستفز طفولتي التي تعرفت إلى الدنيا عبر المآسي التي كان صوته المجلجل يسردها لي قائلا:

أيام عاشوها….وشلون ينسوها

7/ 6/ 2015

المكتبات والوارثون

لعلكم لاحظتم أن الكثيرين ـ إذا لم نقل الأغلبية ـ من كبار الأدباء والأساتذة والعلماء والمثقفين في مجتمعنا لم يعقبوا أولادا يواصلون مسيرتهم، أو يشابهونهم في الاهتمام بالمعرفة على الأقل.

ولعلكم أيضا لاحظتم أن أول ما يثب له الوراثون من تركة الأب هي مكتبته، فيبيعونها قبل ان ينشف تراب قبره كما يقول العرب.

فلماذا برأيكم يحدث هذا؟

لي رأي متواضع بالمسألة…

إن أغلب الأساتذة الكبار والمثقفين يختصرون حياتهم بطلب المعرفة، ويقضون أغلب أوقاتهم بين الكتب، أو بين الطلبة، ويبذلون كل ما يملكون في سبيل المعرفة، وجمع الكتب، في مجتمع بضاعة العلم فيه كاسدة، وموارد أهله محدودة، مما يضطرهم إلى التضييق على أنفسهم وأهلوهم في غالب الأحيان.

حدثني أحد أساتذتي مرة، ممن تعلمت منهم الكثير، ان أطفاله لا يرونه إلا عندما يمد رأسه من غرفة مكتبته، ناهراً لهم لأن صوتهم ارتفع، أو ان صوت التلفاز أعلى مما يجب، بينما تجد أن علاقته مع طلابه على غير ذلك، تتسم بالكثير من النشاط، والود، والنقاشات المعمقة، حتى انهم يكونوا أقرب له من أبناءه.

على هذا، فإن الأطفال يكبرون وهم يرون في تلك الكتب غريما أخذ منهم والدهم، وبالعلم عدوا شغله عنهم، وبطلبة العلم ظهيرا لهذا العدو على أسرتهم وسعادتهم.

وتكتمل المشكلة حينما تكون الأم طرفا في هذا الصراع، تغذيه، لأن الأب يهمل الجلوس معها ومعاملتها كزوجة، خصوصا إذا كانت دون مستواه العلمي، كما انه حطم وضعهم الاقتصادي بتفرغه للعلم، وشرائه للكتب، وعزوفه عن التكسب بما تعلمه، أو تملق الحاكمين لنيل جوائزهم.

لهذا، فإن أول ما يثب عليه الأولاد بعد وفاة أبيهم لينتقموا من إهماله لهم عبره؛ سيكون مكتبته وكتبه، فتراهم يشتتونها كل مشتت، ولا يهدؤون حتى يبيعوا آخر كتاب بأي ثمن بخس، وإذا عز المشتري، فإن التنور سيكون مصيره، بهذه الطريقة اشتريت الكثير من عيون وكنوز مكتبتي الشخصية.

نصيحة من أخيكم الصغير:

أنا أعرف ان المثقفين والعلماء يتعاملون مع مكتباتهم بحب شديد كأن كتبها أبناءهم، فإذا أردتم ان تحفظون هؤلاء الأبناء المكتسبين، وان تكرموا مستقرهم بعد مماتكم، فاحرصوا على أن يحب أولادكم الصلبيين هذه الكتب، وان يكونوا جزءا من حياتكم المعرفية، احتووهم بالحب والحنان، ولا تبتعدوا عنهم بحجة العلم, وإلا، فاحرصوا منذ الآن على ان تؤول ملكية هذه الكتب إلى مكتبات عامة ينتفع بها الآخرون، وتظل ذكراكم باقية بها، ما دمتم عجزتم عن ان تجعلوا ذكراكم في بنيكم موصولة بالحب.

علي المعموري

25/ 5/ 2015

[لا أعرف مصدر الصورة]