فاضل ﮔـنوش

(1)

من الفقر إلى الفقر.

(2)

عرفت أبو عباس أول مرة صغيرا، بشكل أدق، رأيته صغيرا، ولم اعرفه إلا بعد سنوات، واظبت على رؤيته كل يوم تقريبا، دون أن اعرف اسمه، ولكنني اعرف عمله، كانت صورته الأولى التي لمّا تبارح مخيلتي تطوف في الذاكرة منذ تلك السنين البعيدة، يلبس قفاز التدليك الأسود الخشن، منحنيا على رجل مستلق في قاعة الحمام العمومي في حمام جاويد، أو كما يعرف باسم: حمام كلة حسين، يفركه بساعديه الصلبين فركا، كانت ذراعاه تصعدان وتنزلان، كنت اشاهد حركتهما عبر البخار المتكاثف، يرتفعان، يهبطان، يشقان البخار، يكونان دائرة من الفراغ حوله، وبين حين وآخر، يتباعد البخار عن وجهه، فيلوح لي، اسمرا، محمر الوجه، انتفخت اوردته الدموية لكثرة ما تنشق من البخار، عيناه استحالتا إلى كرة من الدم في هذا الاتون المتكاثف، يطلق نكتة عابرة، يضحك المستحمون، ويطبق عليه الصمت.

(3)

ارتبطت حياته بالحمام، مهنته، باب معاشه، وظيفته منح الابدان الراحة المنشودة، والنظافة المبتغاة، سمعته مرة يشكو أبان الحصار من ضيم دهره، ومن تنكر أحد الاصدقاء له، لا اذكر القضية، لكنه تحدث وقتها ان الله رزقه واحدة من بناته ـ اللواتي صرن ثمانية، ثمانية بنات يا الله في هذا البلد الذي يذل الولد قبل البنت ـ كان منتشيا بمقدمها، ويردد أن الله عوّضه عن الخذلان بها.

(4)

ببساطة متكلفة، كيف لسمكة أن تعيش خارج الماء؟

(5)

كان حاضر النكتة، يقتنص التشبيه المضحك اقتناصا، لعل ما لا استطيع نسيانه هو تشبيه أطلقه في التسعينات، حينما كان الدولار يرتفع وينخفض بسرعة جنونية تطير معها القلوب، وتخرب البيوت، وفق مزاج صدام، وقتها، كان هناك شيخ، رجل دين، يعرج بطريقة قاسية، يرتفع نصف بدنه بأعلى ما يستطيع، وينخفض بأدنى ما يمكنه، كأنه منشار صاعد نازل، أو كما شبهه أبو عباس، قال: هذا الشيخ مثل الدولار، يصعد وينزل…

(6)

هدم الحمام، وقبل هدمه ماتت مهنة المدلكـﭽـي مع مات عقب طوفانات 2003، أين يذهب أبو عباس؟ اتخذ من ظهر الحمام، قرب المسجد المفرد من بناية الحمام، مسجد جاويد، الحمام المهدوم، اتخذ من قرب المسجد محلا لبيع ما تيسر للعابرين من عصائر وما شابه، فقير على قارعة الحظ العاثر، كنت أمر به، فأجد مجموعة من الرجال الذين كنت أكبر وهم أمام ناظري، من أهل طرفي وأصدقاء أبي، يرابطون عنده، بعضهم من أترابه الفقراء، يتحلقون عند الفقير، حاضر النكتة، دقيق الملاحظة، الذي حوّل الرصيف إلى مقهى يأنس إليه أحبته.

(7)

كيف لك أن ترثي فقيرا؟ عاش فقيرا، عابر سبيل، ومات فقيرا، بأقسى طرق الموت وأكثرها إيلاما، تاركاً خلفه أفواه غرثى، وعيون ثكلى، وحسرة تخيّم على البيت وتخضه خضا، ربما لم يشكل وجوده في حياة الكثيرين محطة تستوجب الوقوف عندها، لكنه مثّل عندي حياة كل عراقي، من الفقر للقبر، وبينهما الكثير من الوجع، والضحك المداف بالأسى، وجه من الوجوه التي صنعت ذاكرتي عن هذه المدينة، المدينة التي تركتها، ولم ارتح مذ تركتها.

2/ 2/ 2020