أم سمير

 

لا اذكر السنة تحديدا، ربما في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي، اشترى أبي وصديقه وشريكه: أبو زينب، صاحب العصيبي، سيارة فولكسفاكن طراز ترانزبورتر (Volkswagen Transporter) ميني باص صفراء اللون، كانا يطلقان عليها اسم أم سمير، ولعله كان الاسم الدائر السائر لها تلك الأيام.

لا اذكر كم مرة ركبت تلك السيارة، لهذا لا اعرف تفاصيل صالونها الداخلي بشكل واضح، أذكر أن هناك قاطع يفصل مقصورة السائق عن السيارة، وخلف الباب الخلفي المنزلق الذي تدلف منه لحوض السيارة الخلفي، كانت هناك مخارج لجهاز التبريد في السيارة ـ ربما، لا أذكر ـ لا ادري إذا كانت هناك مقاعد خلفية في السيارة، تقريبا لا اذكر من مرات ركوبي تلك السيارة سوى مرتين، في إحداها اصطحبني أبو زينب ليشرب الحليب صباحا حين كنا ننتظر خروج أبي ليذهبا إلى العمل في الحي الصناعي، لا أدري لم تأخر أبي وأرسلني قبله، كان الجو شتاء بارد، سألني أبو زينب أذا كنت أريد الذهاب معه لشرب الحليب، وكطفل لم يتجاوز العاشرة وافقت، اذكر أن المحل كان قرب ساحة ثورة العشرين، وحين وصلنا تصاعد خوف الطفل لدي، وملأني الرعب من تذكري منع أهلي لي من أن آخذ أو آكل من أي شخص دون إذنهم، فرفضت أن ارتجل معه لشرب الحليب، رغم توسلاته.

ويبدو أننا قد تأخرنا قليلا، فعدت لأجد أبي ينتظرنا على الشارع العام بقلق، قرب مقبرة آل الصائغ على جهة النجف الجديدة الموازية لطرف البراق، حيث بيتنا القديم، ولقلقه الشديد نالتني صفعة معتبرة، هي من الصفعات القليلة التي وجهها أبي لي خلال حياتي، وانخرط في عتاب شديد لصاحبه لأنه اخذني ولم ينفع اعتذار أبو زينب ومحاولته الدفاع عني.

المرة الثانية التي اذكرها مرتبطة بعلة أم سمير الكبيرة، وهي إطاراتها دائمة العطب، أذكر أن أبو زينب لم يكن يتحدث عن السيارة دون ذكر آخر زياراته لـ”البنـﭽـرﭽـي” صحبة المحروسة الصفراء التي يسر لونها الناظرين، ذاهب آيب منه، دون جدوى، ذات يوم، تأخر أبي في العمل، ويبدو أنه نسي شيء ما وكان مستعجلا، دار بي والسيارة في عدة أماكن، ليعود إلى الحي الصناعي عقب انتهاء ساعات العمل، ويقتحم بأم سمير أرضا غير مسفلتة، وعرة ممتلئة بحطام الطابوق وشظايا الزجاج، وبسرعة، كانت الكلاب السائبة تنبحنا أنّى التفتنا في تلك الظهيرة القاصمة، وخلص، لا اتذكر تفاصيل أخرى، لكن الذي لا انساه أبدا هو ما فكرت فيه ساعتها، قلت لنفسي، أن كثرة العطب الذي يصيب إطارات أم سمير هو لأنها مدللة، لأن أبي وصاحبه لا يحملان السيارة أي ضغط أو جهد، لهذا صارت مائعة، كثيرة العطب، وأن ولوج أبي إلى هذه الأرض الوعرة اليوم هو  أفضل دواء لهذه السيارة النحسة، كثيرة الشكوى، وستتعلم الأدب وتتجلد على الشدائد، اتذكر الواقعة، وأتذكر أن إطاراتها لم تتأثر بعد تلك الحادثة، وأقف مستغربا من طريقي تفكيري في سني اليافعة تلك، كيف ناغمت أبا نؤاس حيث يقول:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

وداوني بالتي كانت هي الداء

لا ادري كيف!

على أي حال، قبل مدة وأنا أتصفح أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وجدت مجسمات صغيرة لسيارات متعددة، كان من بينها الظاهر في الصورة المرفقة، صرخت دون وعي: يا الله، أم سمير! ودون تردد اشتريت النموذج.

لقد أحببت تلك السيارة التي لم أركبها كثيرا، أحببتها بشغف كبير.