عن الأمكنة التي لا تغادر البعض

للأمكنة روح تسري فيها، وللأشخاص أمكنة تسكنهم، تكاد أن تجدهم مترادفين، يشعرون ببعضهم، بعض الأشخاص حين يلجون مكانا، أو يمرون بشارعٍ، تكاد تشعر أن الجدران تتبرج لهم، تظهر أجمل ما فيها من المفاتن، يتناغمون مع بعضهم كتناغم أصابع نصير شمّة مع العود، فلا يبارحون الدار، ويتلف أحدهم عمره مترقباً كذاك الذي ينتظر بغداد في قصيدة مصطفى جمال الدين حين يقول:

والآن يا بغداد يأزف موعد

لك في الخلود قلوبه تتنظرُ

من كل من أعطاك غض شبابه

ومضى بذابل عمره يتعثر

يترقبونك والطريق أمامهم

بهم المسارب ضيق مستوعر

يبس الزمان وهم على أطرافه

عذب بما تعدينه مخضوضر

ثم يؤوبون إلى حيث آخر الطريق، وحيث الراحة الأبدية، مباركون حيث حلوا، وليس في يديهم مما انتظروا غير المحبة.

أما البعض، فتأخذهم الأزمنة بعيدا، وتقلبهم الليالي، يتنقلون بين المرابع كالرعاة، يثملون ويصحون، يحزنون ويبكون، يلبسون أجمل ثيابهم، ويأكلون على أفخم أفخم الموائد وأكثرها ترفا، يشربون مياها نقية لم تكدرها الأنظمة الغبية، ولم يستنزفها العشب الضار، يأوون آخر اليوم إلى منازل مكيفة، وفرش وثيرة، ولكنهم، ومهما شتموا دارهم الأول، وقرّعوا رهطهم الأولين، فإنهم، وحين يغلقون على أنفسهم مصاريعها، ويخلون إلى ذاتهم، مجردة عارية، يطلقون حسرة طويلة، يشتمون أنفسهم، ويترنمون بما قاله المنشد الأحوازي ذاك (الله يا ديرة هلي يلماكو مثـلـﭻ ديرة).

أذرعُ صفحاتهم في هذا الفضاء الالكتروني، فأجدهم ـ حسنا، بعضهم على الأقل ـ على بعد دارهم، وكثرة ثمارهم، يقتطعون نصف وقتهم ليشتموا أهل بلدتهم الأولى، وبلدهم الأم، مستصغرين قدرهم، مسخفين شأنهم، يسخرون من كل ما يطمأن نفوس جيرانهم الهلعة أبداً، ثم أسأل نفسي، لماذا يفضون كل هذا المزاج لنا؟ ألسنا دونهم في القدر؟! ودونهم في الفهم؟! ألم ينقذوا أنفسهم من الوهدة التي غرزت فيها أرواحنا عميقاً؟ ما الذي يجبرهم علينا؟ هل هو سعي إلى إصلاحنا بشتمنا؟ أم هي عقدة و(الحـﮓ ربعك)؟

ثم أتذكر ما قاله عريان السيد خلف يوما، حين تحدث عن امرئ يشتم نفسه من شدة غضبه، ولكن الجماعة إياهم غاضبون، ويكابرون، فيشتموننا، يكرهون في أعماقهم أنهم لا يزالون يحبون تلك الساقية الأولى، وشظية الزجاج الأولى التي جرحت أقدامهم في تلك القرية النائية، يحن أحدهم إلى أولى صفعات أبيه، وشتيمة أمه الدافئة، ولكنهم يكرهون هذا الحب، ويأنفون من ذاتهم المغروزة عميقا، المدفونة تحت كتل من الذكريات الكئيبة، وليالي الشراب المهتاجة في بارات السعدون الرخيصة، أو الصلوات الخائفة الوجلة في المساجد المراقبة، والحيرة التي تقلبهم ذات الخبب.

الأمكنة حواضن ذكرياتنا، بيادرنا التي تملئ أرواحنا بالشبع، الكأس الأولى التي نظمأ لها بعد كل مشرب عذب.

خارج المتن: في يومها الأول، دخلت الفتاة الجميلة، الملتحقة بالسلك الدبلوماسي، التي نقلت إلى بعثة بلدها في ربع أوربي أخضر، وما أن اجتازت عتبة السفارة، وجدت في استقبالها زملائها، وبينهم رجل يرتدي بذلة حمراء، تحتها قميص أصفر فاقع، وعقد رباط أخضر مفسفر حول عنقه الغليظة، صرخت (أيييع)، ثم هوت على وجهه بصفعة رنانة، كتلك التي منحها لها الوالد حين ارتدت أول تنورة قصيرة في حياتها، ورضيت أن يعيدها خال الفتى الأحمر المخضر المصفر ذاك ـ المتنفذ في بلدها ـ إلى مقر الوزارة، كموظفة في الأرشيف، القبح يستفز القلوب الجميلة.

[الصورة: للفنان علي آل تاجر]