مرتضى كزار

انتبه! أنت أمام حزمة من المواهب، روائي، رسام، مخرج سينمائي، عدا كونه مهندس نفط، توحدت في شخص واحد!

كنتُ محظوظا أنه أضافني لصفحته على الفيسبوك، وحين دخلتها وجدت عوالم متوزعة على مستويات عدة، تمتد، وتتقاطع، تلتقي أبدا، وتفترق على وعد بلقاء.

حسنا، للأسف لم أقرأ أي من رواياته، رغم أن احدها يسرد تاريخ مدينتي، ويتلمس عوالمها وتأثيراتها في العراق، وهي رواية السيد أصغر أكبر، التي بحثت عنها في مكتبات النجف ولم أجدها، ولم أبحث عن نسخة الكترونية لأنني أعرف أنني سأتكاسل عن قراءتها، لارتباطي الأزلي بالورق، ولأنني لم أقرأ رواية منذ عشرة سنوات، ولكي أقرأ هذه الراوية فلابد أن أمسكها بيدي، وأن أشم رائحة الحبر من ثناياها، تنساب رويدا مع تاريخ المدينة التي ارتبطتُ بها بكل الطرق الممكنة، من عشق مسقط الرأس ومنبت الأسرة منذ قرون، وصولا إلى مداخل الفهم التي منحها لي التخصص، المرتبط كثيرا بتاريخ المدينة ذات الطابع المركزي بالنسبة للحدث العراقي، والملتبس في الكثير من الأحيان.

ولكن ما يكتبه مرتضى كزار باستمرار على صفحته كافٍ لكي يحفزني للكتابة عنه، لأن من يرد مائه سيجد نفسه هذه المرة أمام ظاهرة فكرية يندر ان تجدها في جيلنا الثمانيني، وهي أن لا تكون منتم لفصيل، وأن لا تعيب على أحد انتمائه مهما اختلفت معه في ذات الوقت، ومهما انتقدت سردياته التاريخية، مادامت تلك السرديات لا تُسلُ سيفا عليك، ولا تحاصرك بمطلقاتها كي تسلب وجودك المستقل.

كتب مرتضى كزار مرة:

(و هل مشكلتنا مع الحقائق أصلا؟، أم مع أهل الحقائق و ملوك الحقيقة و ابن أخت الحقيقة و ابن أم الحق و خالات الحقيقي و عماته!؟.
المشكلة مع المضاف لا مع المضاف إليه.
الذي يقتل الحقيقة هم قرابتها و جيرانها عادة. سوء خلقهم و فشلهم في الحوار و تعصبهم و عماهم عن رؤية الآخر.
لا أحد يهتم بالحقيقة قدر اهتمامه بقربه منها و انتسابه لها، فيصبح دفاعه عنها دفاعاً عن وجوده و عرضه!، و هكذا يتشابه جميع ابناء الحقائق و اعمامهم و عشائرهم مع عشائر الحقائق الأخرى. و تختلف الحقيقة عنهم).

وبهذه القاعدة المكثفة، يقول لك ذو المواهب المتعددة: انا مستعد لأن اتعايش معك، ما دمت لا تضيق علي حريتي، كما لا أضيّق عليك مساحتك، انا لن اشتم معتقداتك، ولن أسفه اختيارك لها، حتى لو كانت تلك المعتقدات ذاتها سفيهة، لا أجد مشكلة في اختياراتك، ما دمت لا تشهرها مدفعا بوجهي.

ولا يقف عند هذا الحد، فكل واحد من مقالاته، أو منشوراته القصيرة يشكل مساحة شاسعة للنقاش والأخذ والرد والتجاذب، حزم من الضوء تستوجب ان تقف عندها، وأن تسترعي انتباهك طويلا، زوايا حادة تستوجب حذرك من المرور سريعا، كلمات مكثفة تستحضر التاريخ والرواية والفن والفلسفة، تتيح لك أن تختلف مع الكاتب، ولكن لا تسمح لك أن تعاديه، لأنه يصدمك بتأويله العميق، بأدلته وحفرياته الاجتماعية والفكرية، انه يعلن موقفه بصراحة، وبصراحة صادمة في الكثير منها، ولكنها صراحة موقف قائم على الشك، على أمكانية التأويل، باب مفتوح لفهم جديد في زمن آخر، في مستقبل قادم، يختلف معك بشدة، لكنه ــ مرة أخرى ــ لا يتيح لهذا الاختلاف أن يستوجب عدائك، لأن الذين يفهمون لا يعادون، والذين يؤولون مواقفهم، وقناعاتهم باتجاه مرتكز واحد هو الانسان، حياته وكرامته، هؤلاء القوم لا يمكن أن يعادوا أسلوبا آخر للتأويل تجاه ذات الهدف مهما كانت أدواته، وسردياته مختلفة معه، وهو ــ مرتضى ــ سيتفهم موقفك بدوره، ستراه متابعا يقول لك بمصطلحات الفيسبوك انه يحترم رأيك، انه يحترم فكرتك، حتى وإن اختلف معك بشأنها.

ويرسم مرتضى كزار لوحات، وكاريكاتيرات تصيبك بالرهبة والخشوع، تحرضك على التأويل، انه يمارس صنعة الروائي بالألوان هذه المرة، رموزه اللونية مكثفة، تحتمل تأويلات كثيرة، وتنفتح على مساحة شاسعة من التفسيرات والفهم، انه يجبرك على أن تستحضر كل ما قرأته، وتحاول أن تربط بين تلك الرموز، وبين ما تعرفه، ولن تصل إلى قرارة فكرته التي طرزها بالألوان في أغلب الأحيان.

وليست الفكرة العميقة وحدها ما يبهرك، بل أسلوبها الفني، حتى أنه يمنحك كاريكاتيرات بصيغة فيديو، يبين لك أصل الفكرة، هناك واحد من تلك المبهرات التي يأتي بها، يقدم تفسيرا لسلوك القطيع في الفيسبوك ـ وما أكثره ـ تشاهد في أوله رجلا يعزف على ناي، ولكنه ليس نايا كما ألفته أنت وعرفته، انه حرف (f) وقد استلقى، واستطال حتى غدا كالناي، ثم يستحضر تلك القصة العالمية عن العازف الذي يقود الناس خلفه بعزفه على نايه، ولكن التابعين هذه المرة هم خرفان، قطيع يسير مخدرا لا يعرف ما يفعله قائده، يسير خلفه وحسب.

وكما لم أقرأ له رواية ـ للأسف ـ فلم أشاهد أيا من أفلامه، في ظل عتمة النشاط السينمائي لدينا، وبعدي عن بغداد، التي أحسب ان مشاهدة فيلمه فيها ممكنة، على هذا، لا أستطيع أن أقول كلمة فيها، ولكن الجوائز التي حازتها أعماله تخبرك أي مخرج قدير هو، يكتب ويخرج الفيلم، يراعيه من أول تشكله كفكرة، حتى تجليه عملاً مبهرا، كصانع محترف يعامل انتاجه كأنه ابنه.

تجربة مرتضى كزار لا يمكن حصرها بسطور، ولست مؤهلا للإحاطة بها، ولكني أقول: سعيد أنني عرفتك.

الجمعة 22/ 1/ 2016

[الصورة: مرتضى كزار]