الكدس الأول

(1)

قضيت الشطر الأول من سنوات دراستي الابتدائية في مدرسة الغفاري بمقرها القديم، وهو المقر الذي انتزعته السلطة من جمعية منتدى النشر بعد إغلاقها، الجمعية التي أسسها المجدد المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر، مؤسس كلية الفقه في النجف، حيث كان مقر المدرسة التابعة لها بعد ان توسعت، فبنت الجمعية مدرسة ابتدائية على مساحة مربع سكني كامل (بلوك)، بقينا في مقرها حتى الصف الرابع، ثم انتقلت إلى مقر جديد جنب إعدادية النجف، التي تأسست عام 1925 فكانت ثالث اعدادية تؤسس في العراق.

(2)

كل السنوات الجميلة، الخالية من المسؤولية التي قضيتها تلك الأيام كانت بكفة، واكتشافي لكنز أسأت استخدامه غاية الإساءة بكفة أخرى.

(3)

في طرف المدرسة الجنوبي الغربي، كانت تقبع ثلاث حجرات لم تركب لها أبواب مما يوضع للحجرات عادة، بل ركبت لها صفائح حديدية مبرومة، من تلك التي تركب للمحلات التجارية، ويسمي العراقيون واحدها (فنر)، صفائح مثناة تبرم على محور عمودي مركب عليه زنبرك يسهل طيها وفتحها إلى الأعلى أوالأسفل.

لا اتذكر بالضبط كيف اهتديت لها، خصوصا ان الوصول لموقعها كان يتطلب ان أمر بمكتب المدير وغرف المعلمين، التي كانت تتمركز في الجهة الغربية بطولها، بكل ما تعنيه سلطة المدير، وعامل الإرهاب الذي تشكله للطفل الصغير، الذي قد يتعرض للصفع لو خرق النظام، لا اعرف تماما كيف ولجت لها، ولكني متأكد ان زميل الطفولة حسن أنيس الذي احببته كثيرا ولم اسمع عنه شيئا منذ الابتدائية كان شريكي بذلك الفتح الجريء.

(4)

كان طرف احد (فنرات) الحجرات تلك قد أفلت من السكة التي تحبسه، فولجت لداخل المحل المظلم، إلا من خيوط ذهبية لأشعة الشمع تتسلل من شقوق (الفنر) لتضيء تلك العتمة بنعومة وئيدة، فيختلط الضوء المتسرب برائحة الرطوبة وبقايا رائحة سأغرم بها حتى آخر أيام حياتي، رائحة أحبار الطباعة المتسربة من الكنز، مختلطة بالرطوبة، ورهبة ذاكرة المكان، كدس كبير، تلٌ من الكتب، كتب المناهج القديمة للمدارس العراقية.

(5)

كانت خليطا متنافر الطبائع، متجانس في صلب ذات المعرفة ــ وهل لها ذات؟ ــ، مناهج الخمسينات حتى الثمانينات، كتب الأدب واللغة والمطالعة والنصوص والتاريخ والرياضيات والعلوم إلى آخر أنواع المناهج.

تقبع هناك وحيدة إلا من ذاتها، مهملة إلا مما انطوت عليه من علم، أكاد اليوم أسمع الأصوات التي تنبعث منها كالهمهمة الخفيضة، تتصاعد رويداً مرحبة بالطفل الذي شب وهو يسمع عن مكتبة جده التي لم تظل بعده طويلا، ولم ير من قبل هذا الكم من الكتب مجتمعة معا، كأنها في حفلة، أو كأنها في انتظار جماعي لزوار بدا أنهم لن يعودوا مجددا لتلمس صفحاتها، كما يتلمس العاشق خد حبيبته، كما تتلمس الأم وجنة رضيعها بجذل.

بسرعة خاطفة، حمّلت ما استطعت منها في حقيبتي المدرسية، وخرجت هاربا صحبة حسن، إلى البيت.

(6)

كنت طفلا في أول عهده بهؤلاء الصحب، ولا أعرف كيف ينبغي بي أن اعاملهم، ولهذا، فإن عمتي جلست تتفرج علي وأنا اشرع في مجزرة ورقية، بغياب أمي في المدرسة، التي عادت لتفاجئ بالمنظر المرعب الذي صنعته.

كتب الرياضيات والعلوم كانت تتحول مباشرة إلى صواريخ ورقية وانابيب للقتال بيني وبين أخوتي، أما كتب الأدب والنصوص فكنت أقرأ منها ما استطيع، ثم تلحق بصويحباتها، وأمي تؤنبني، وتحاول ردعي عن هذه المجزرة التي صارت برنامجا يوميا دون فائدة.

(7)

لا يمكن لي اليوم ان اصف المتعة التي منحتها تلك الكتب لي، سواء بعد ذبحي لها وجعلها ألعاب عنيفة، أو وأنا أقرأ ما تيسر في كتب المطالعة والتاريخ من قصص أدبية، وأشعار مختلفة، بعضها لا يزال حتى اليوم في بالي بعد أكثر من عشرين عام ـ يااااااه وصلت إلى تلك المرحلة التي اتحدث فيها عن ذكرياتي قبل عشرون يا أمي ــ لا زالت بعض الأسماء عالقة في ذهني، ولا زالت بعض الكذبات التي سقتها لأصدقائي في (العكد) مستلهما أصولها القصصية من تلك اللمحات الخاطفة.

في تلك الكتب، قرأت أول الأسماء الرنانة التي ستلازمني طويلا بعدها، ورأيت أول صور القادة، والملوك، والفلاسفة، لا زال رأس أفلاطون المرمري، ولحية ارسطو، وأطلس يحمل الكرة الأرضية تلازم مخيلتي.

لا زالت أواني ارخمديس المستطرقة تداعب نظرية فيثاغورس في مخيلتي، رغم كرهي للرياضات، ولا زالت قصيدة شوقي عن الهدهد غضة طرية في ذاكرتي، أقرأها بيتا بيتا بين الحين والآخر.

(8)

لا أذكر المدة التي بقيت خلالها استهلك من تلك الكتب، قبل ان يقبض المدير أ. عدنان علينا، وننال صفعة عامرة رغم أننا من المتميزين الذين لا يداس لهم طرف، ثم تولاها الرجل بالبيع لمن كانوا يصنعون منها أكياسا ورقية تستعمل مرة واحدة أيام الحصار في التسعينات، كانت هناك عربة يسحبها حمار ظلت تؤم المدرسة لأيام قبل أن تأتي على تلك الجموع، التي كنت وحسن سببا في تعكير سكينتها، أو في خلاصها من اللاموت أو اللاحياة!

(9)

رغم ذلك، لا زلت حتى اليوم احتفظ بواحد أو اثنين من تلك الكتب، من كتب المطالعة والنصوص والأدب خصوصا، لا أعرف في أي خزانة مزوية من كتبي يقبعان، لكني أذكر من أحدهما واحدة من أكثر القصص التي أبكت طفولتي الغضة الآخذة بالتماس سبيل أهلي الباكي الحزين، كانت قصة لتشيخوف، اسمها الحصان، عن حوذي توفي ولده بمرض وهو لتوه آخذ بسبيل الشباب، وكل قلب أبيه أمل بأن يقوم بشيخوخته، كان الرجل يتلوى بين لسعات البرد، والثلج الذي يكشط وجهه، وبين حزنه الذي يمزق قلبه، يحاول ان يحدث من يركب في عربته عن مأساته دون جدوى، كان يريد أن يخبرهم كيف كان ولده قويا، يقود العربة بشكل أفضل منه، وكيف مرض، وذوى عوده كالورد عاجله الخريف، لكن أحدا لم يصغ، بل إن شبانا نبلاء صفعوا قفاه ليضحكوا وحسب، وفشل حتى في الحديث إلى ساقي البار عن مأساته، فأخذ كوبه، وخرج ليطعم حصانه، وفي الوقت الذي كان الحصان يلعق (الهرطمان) من كف صاحبه برقة، أخذ الحزن من الحوذي مداه، فانخرط يحكي للحصان مأساته.

(10)

اتذكر في هذه اللحظات تلك الوجبة المبكرة من الحزن، التي قرأتها مرارا وتكرارا، وبكيت لها بشجاعة في طفولتي، ونهنهتها بخجل في شبابي،.

أتذكر تلك الرائحة العبقة اللذيذة التي داعبت حواسي في ذلك المكان الممتلئ كتبا، الذي أسلمني لاحقا إلى أكداس أخرى، ولكن بعد أن صرت ممن يقدسون الكتب، ويأنسون بمجرد الجلوس بين أكداسها.

كيف لي أن انسى، وعبد الرضا الرادود يستفز طفولتي التي تعرفت إلى الدنيا عبر المآسي التي كان صوته المجلجل يسردها لي قائلا:

أيام عاشوها….وشلون ينسوها

7/ 6/ 2015

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.