لماذا الكرادة؟

منذ طفولتي، كنت آتي إلى بغداد مرارا وتكرارا سنويا، امكث في بيت عمتي، ولكني لم أكن اعرف من بغداد سوى مدينة الحرية حيث منزل عمتي، والكاظمية حيث أذهب للزيارة، ثم اكتشفت المتنبي وسحره لاحقا.

ولكن انتقالي للدارسة الجامعية في بغداد كان المحطة الأكثر أثارة في حياتي، فقد نقل الولد الجنوبي القادم من النجف الذي كنته إلى مرحلة جديدة، عرفت فيها وجه آخر لبغداد، بل قل وجوها غير تلك التي ألفتها، وكان للكرادة الوجه الأكثر سحرا بينها.

كنت قد مررت قبل ذلك بالكرادة دون أن أعرف انها الكرادة، والمرة الأولى التي دخلتها وأنا اعرفها كانت في سنتي الجامعية الثانية، بعد ان سكنت في القسم الداخلي وتمتعت بحرية الحركة أخيرا.

تذكرت منذ أول دخولي لها مشهدا من أسعد مشاهد طفولتي، كنت ربما في السابعة أو الثامنة، ولا أذكر المناسبة التي كنت لأجلها في بغداد، واصطحبني جدي في باصه الفيات (OM) مع ابن عمتي الأصغر مني لجلب الحليب فيما أذكر، كانت غصون الأشجار تتدلى حتى تدخل لنا من نوافذ السيارة العالية، اتلمسها ببهجة غامرة، كأنها تصافحني، وتنحني لتقبل تلك الطفولة المندهشة من هذا المنظر الأخضر للطفل القادم من مدينة صحراوية خشنة، واليوم  أكاد اجزم ان ذلك المكان الذي اصطحبني جدي الحبيب إليه لم يكن سوى الكرادة، لأنه لم يحب سواها في بغداد، ولأنني لم أحب احد كما أحببت جدي، ولأني لم أحب في بغداد موضعا كما أحببت الكرادة، لهذا، لا أريد لتلك الذكرى العزيزة على قلبي إلا أن تكون في الكرادة.

كان دخولي الأول لتلك المنطقة وأنا أعرفها مبهرا تماما، جمال النوارس السارحات فيها، الترف و(النزاكة) التي تحيط أهلها، النخيل الذي يشرأب من خلف أسيجة بيوتها، مساجدها، حسينياتها، كنائسها، كل ما فيها كان مبهرا، الشيء الوحيد الذي كان ولم يزل يمزق قلبي في الكرادة هو صور شهدائها التي تتوزع على جانبي طريق [الكرادة داخل] كأنها الفوانيس تضيء ليلا أبديا من الألم والفجيعة يحيط بالعراق.

تدريجيا بدأت أفهم روح الكرادة، المتصالحة مع نفسها، المحتوية لجميع الأديان، وجميع الطوائف، هنا حيث يقيم السنة مجالس عزاء أحبتهم في الحسينيات المجاورة، ويقيم الشيعة مجالسهم في المساجد السنية القريبة، حيث يشترك المسيحي في الطبخ للحسين، ويلطم السني بحرقة في عزاءه، ويخرج الشيعي ليحتفل بالمولد النبوي في المساجد السنية، هنا حيث كان الشهيد الشيخ عارف البصري في الستينات يدير مدرسة نصف طاقمها من المعلمات سافرات وهو من الرعيل الأول في حزب الدعوة، هنا الكرادة، التي تحتوي الجميع، تحتضنهم كالأم، لتمثل روح بغداد الحقيقية المتمدنة.

حتى أهل الكرادة الأثرياء يختلفون عن بقية أثرياء بغداد، أثرياء الكرادة متواضعون، يلبسون كما يلبس بقية العراقيين، يعيشون مع جيرانهم كأنهم منهم، يشاركون في الاحداث العامة، ثراء عراقي، يختلف عن الثراء المتصنع للارستقراطية المتكبرة الذي ستجده في مناطق أخرى من بغداد وسمت بأنها أحياء للأثرياء، هنا ستجد الثري الكرادي مبتسما، متواضعا، يتعامل معك كأنك ندٌ له.

كانت الكرادة حلماً بالغ الشفافية لكل العراقيين، هنا يجتمع الجنوبي المسحوق، بالقادم من الغربية الخشن، وقد يجدان زوجة كرادية تلملم حطامهما، وتمدين غلظتهما، هنا يسرح طلبة الأقسام الداخلية في جامعتي بغداد والنهرين، يمتلئون من الكرادة مدنية، وجمالا، وأناقة، يفد الشاب البسيط إلى الكرادة دون حلم، ويخرج منها متمدنا، انيقا، محملا بالزهو والأحلام، الكرادة المتعايشة، حيث تسير المحجبة حتى الذقن مع الكاشفة عن زنديها الفضيين بكل ود وانسجام، ويجالس إمام الجماعة في نهار الكرادة من قضوا ليلتهم البارحة سكارى، حيث تحتوي الكرادة الجميع في النهاية، وتمنحهم كل الحب، وتملأهم بالجمال، دون كل مناطق بغداد الأخرى، التي إما أن تكون مترفعة متكبرة على العراقيين مستغربة عنهم، أو غارقة في بؤسها وتريفها أو تعصبها الديني، عكس الكرادة، التي لا تمثل سوى روح بغداد الحقيقية.

لهذا، لأن الكرادة ذات الهوية المركبة كانت وستظل عصية على أبعادهم الأحادية، سيظلون يستهدفونها، وستظل تنزف شهداء من خيرة شبابها وكهولها، وستظل رغم كل ذلك، عامرة بالجمال، متصالحة مع ذاتها، متقبلة للكل، محتوية لهم.

[بالمناسبة، الوضيع، التافه، عديم المعرفة والقيمة الذي كتب عن الكرادة على ويكيبيديا العربية تجاهل العديد من المساجد، لسبب لا يعلمه إلا الراسخون في الطائفية، ورغم ذلك، فالكرادة أكبر من حقارته، وضيق أفقه، الكرادة أكبر من كل الطائفيين]

الأحد 10/ 5/ 2015

[الصورة لتمثال مرجانة والأربعين حرامي للفنان العراقي الراحل محمد غني حكمت، ليلاً]

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.