الناس موتى وأهل العلم أحياء

علي المعموري

عندما تكون ماشيا بهمة في الباب الشرقي، قادما من ساحة الطيران، وهواء آب الحار يلفح وجهك بعنف، متجاوزا السيارات المجنونة بصعوبة بالغة، تريد ان تلحق بموعد يتعلق بشأن دراستك، ثم يستوقفك فجأة شرطي من الذين يرابطون هناك فليس لك إلا أن تحوقل، وتسأل الله ان يدفع عنك.

تلك الساعة لا تعرف انك مقبل على تجربة، وعلى تعلم أمر مهم في حياتك، ولتتذكر بأنه رب ناقل علم لك وهو ليس بعالم.

أوقفني الرجل بأدب بالغ وهو يحدق بالاوراق التي أحملها، سألني: “أنت مخلص كلية” أجبته بنعم، وانا ضجر تماما، وقلق في الوقت ذاته، سأل مرة أخرى: “هل يمكن ان ترشدني إلى كلية أو معهد يقبلني، حتى لو أهلي، انا خريج اعدادية صناعة وما أدري وين اروح” أجبته بأنني لا أعرف حقا أين يمكن ان يذهب بشهادته هذه، يمكن ان تقبله كلية إسلامية، فأجابني بأنه يريد ان يذهب إلى كلية إسلامية، وليست مشكلة. وهنا قال لي بأنني ما دمت خريجا جامعيا فانه سيقرأ لي شعرا حول العلم، استعمت بضجر بالغ لما قرأه وهي هذه الابيات:

الناس موتى وأهل العلم أحياء                والناس مرضى وهم فيها أطباء

والناس أرض وأهل العلم فوقهم              مثل السماء وما في النور ظلماء

وزمرة العلم رأس الخلق كلهم                وسائر الناس في التمثال أعضاء

بالرغم من الحكمة التي حملتها الابيات، وحبي للشعر والحكمة، لكنني لم اتفاعل مع الرجل الذي بدا أنه لا يريد ان يعتقني، سألني ما إذا كنت أريد ان أكمل دراستي للماجستير بعد تخرجي، اخبرته انني طالب ماجستير آملا أن ينتهي الأمر، ولكن ما حدث بعدها هو ما صعقني حقا، الآن انا اقف على الرصيف العالي، بينما يقف الرجل دوني على الأرض، مد يده ليصافحني فصافحته ببرود، وإذا به، ودون أن استوعب الموقف يسحب يدي ويقبلها، ويقول: هذه للعلم الذي تحمله!

يا الله لم اتمالك نفسي عن تقبيل الرجل على بيريته الساخنة، ووجهه الذي لوحته الشمس، في موقفه الخطر ذاك، وهو يقبل يد الضعيف؛ طالب العلم الصغير هذا اكراما للعلم، في بلد صار المتعلم يحتقر من يراهم دونه في التخصص العلمي، متصورا أنه هو وحده الذي ملك ناصية الشرف بتخصصه، متناسيا انه لبنة في بناء، في بلد صار نواب الشعب فيه ينظرون بتعالي إلى العلماء، ويبخسون حقوقهم وحقوق المدرسين والمعلمين، في بلد يوقف فيه اصغر منتسب أمني عميد كلية، ليهينه، ويمسح بكرامته الأرض، وإذا بهذا الرجل يلملم خيبتي، ويمنحني أملا بأن هذه الأرض لا يمكن ان تخلو ممن كرّم الله فطرته فصار يدرك قيمة الاشياء، وليذكرني بأمور كنت قد بدأت أطوي عنها بصيرتي على أثر الضربات الموجعة التي تلقتها، أعاد لي الرجل ثقتي بالعلم، وبالعراقي الأصيل الذي يمكن لك أن تجده هنا وهناك في ضل هذا الخراب الاجتماعي الذي نعيشه، وليخبرني بأن أهل الفضل يمكن أن يوجدوا في أكثر المواقف قسوة، وأشدها وطأة.

سيدي النبيل، اقبل يداك القابضتين على السلاح، وروحك التائقة للعلم، نعالك يسمو على هامات الكثير ممن يعلونك رتبة، ممن تآكلت أرواحهم من الظلام، وتبلدت بصائرهم من القسوة، نعالك يسمو على كل القتلة من اليمين إلى اليسار ممن يدعون حب الوطن، ويسمو على الذين باعوا علمهم وطلبوا به الدنيا.

اخوتي واساتذتي الكرام، ارجو منكم ان تساعدوني في معرفة المعاهد والكليات التي يمكن أن تقبل هذا الرجل النبيل على مقاعدها الدراسية، أهلية كانت أم حكومية فهو أجدر بالعلم من آلاف الفاشلين الذي يتقافزون كالقردة في دور العلم، ساعدوني لأكرم هذا الرجل الذي ذكرني مجددا بقيمة العلم، الرجل الذي يتغنى وهو واقف تحت الشمس، وسط السيارات الزاعقة التي لا يعرف أيها سينفجر، دون أن يأبه يترنم قائلا:

الناس موتى وأهل العلم أحياء.

السبت 17 /8 / 2013

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.