المدينة التي تبتعد

علي المعموري

الحلقة الأولى

(1)

هذه المدينة التي يتناقص ما يربطك بها من أشياء كل يوم، المدينة التي شاخت، كأبوك الذي دهمه الوهن فجأة، وصارت الأشياء القديمة تذكرك بقوته، العتلات الصماء الحديدية التي كانت اذرعه تلوح بها كالريشة ذات يوم، وإذا به يجرجر اقدامه مثقل الخطى، كالمدينة التي كانت ذات يوم كل شيء، رغم انها عاشت في شظف وحاجة لكل شيء، اما اليوم، فهي عامرة بكل ما يخطر على بالك، إلا ذاتها.

(2)

اتذكرُ عندما كان العالم يقتصر بدرجة كبيرة على (السور) أو بقاياه بالأصح، في (طرف البراق) المحلة النجفية التي استوطنتها اسرتي منذ اربعمائة عام، العالم الذي اذا اتسع فلن يتجاوز منزل جدي، في حي السواق، ومنازل اعمامي في الجديدة، وكلها تتمركز حول المحور الذي ارتبط وجود النجف به، مرقد الامام علي بن أبي طالب عليه السلام، وظلت بأحيائها القليلة متمركزة على ذاتها، ذاتٌ تشكلت من خليط عجيب، عروبية شديدة بسبب الطابع البدوي لابناء بيوتاتها المنحدرة من العشائر العربية القوية، مدنية قائمة على الدين والتجارة، مغموسة بالتكبر على ابناء المدن الأخرى، واهل الريف ومن ناظرهم، حتى لهجتها تميزت عن باقي لهجات هذه الارض، لهجة قوية المخارج، غليظة، كغلظة أهلها الذين يشربون مياه الآبار، ويتنفسون الغبار المتناثر على طول يومهم، قساة كأرضهم، دون ان ننسى مجالس اللغة العربية فيها وما تركته من تراكيب ومفردات فصيحة في الدارجة النجفية حتى على ألسن المكارين.

(2)

حينما بدأت أقرأ، وأعي ما حولي، واتشرب الثقافة الدينية للمدينة القديمة، كانت صورتها تتسع في روحي لتشمل العالم كله، بما تمتلكه من رصيد روحي وديني، جعلها العاصمة التي تهوى إليها نفوس أتباع إحدى الفرق الاسلامية الكبيرة، فيقصدونها طلبا للعلم، ثم يستوطنها من ينبغ من بينهم، أما البقية فينتشرون في بقاع الارض، وتظل بأزقتها الملتوية حول مرقد الامام حلما أزليا يداعبهم في كل سانحة، ولعب الجدل الفلسفي، والديني فيها دورا في اسباغ تلك الصبغة العالمية، وإن ظل الآخر مبهما لا يُرى إلا عبر الكتب.

ولم يقف الامر عند هذا الحد، رغبة الأحياء فيها، بل تعداه إلى الرغبة في الحصول على السلام في تلك البقعة التي ارتبط اسم واديها بهذا الحلم، السلام، فكانت وادي السلام، حتى قال ابنها علي الشرقي:

فصادرات بلدتي عمائم…….وواردات بلدتي جنائز

(3)

اتجول اليوم على أديم تلك الأزقة التي فرشت بالمقرنص، ولمّا تزل الاتربة تضمخ خدها الأسيل (خد العذراء هو من الاسماء العديدة التي تطلق عليها)، ولكنه ليس كذاك التراب الذي كنت اركض فوقه حافيا، أهم بضرب الكرة الرخيصة، فيصطدم اصبعي بالارض، ليختلط الدم بالتراب بالهدف الضائع، انه اليوم تراب غريب على روحي، اتلفت في الوجوه فلا أميزها، وتضيع لهجتي بين اللهجات الكثيرة، واللغات المتناثرة التي تشتبك على الالسن.

وتتعدد مستويات الضياع…

بين أخوتك الذين يأخذهم العمل منك رويدا رويدا رغم أنهم يسكنون معك في ذات البيت، ويشاركوك ذات الغرفة، بين أصدقائك الذين سافروا، أو الباقين، الذين تمنعهم زوجاتهم من التأخر، او الأكل خارج المنزل، الذين يُلزمهم نشاط اطفالهم على الإياب مبكرا إلى المنازل.

بين ذلك كله، تتزايد غربتك كل يوم، وتُضيِّق عليك الوحدة المساحات التي اتخذتها لنفسك رُحبا منذ كنت.

حتى تلك الفُسح المتخيلة التي تنبع أحلامك منها، تتسلل لها الافكار السيئة، تشيد فيها عشوائيات تناظر تلك التي ملأت مدينتك، وأخذت شكلا اكثر تطورا بعد ان أخذ الوحوش ــ ملاك البساتين ــ بقطع عماتك من النخيل، وبيع مهاجعهن الأزلية التي ارتبط اسم العراق بها منذ ان كان، أرض السواد، التي لم يعد يسودها للناظر البعيد سوى الخراب، والدولة المشغولة بالسلب.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.