البريم…. والعراق

علي المعموري

هذا النص هو ما أهلني لأن اكون احد المدونين على منصة مدونات عربية، لم يسبق لي نشره سوى على صفحتي الشخصية، ومن المناسب ان انشره هنا مادمت قد فزت بالمسابقة عبره:

طوال عمري، لم يبرحني الشوق إلى صنف من التمور سوى نوعين، أُفضلهما على الجميع، وآكلهما بلذة، البريم والديري، وهما وان اشتركا بالقساوة والحلاوة إلا ان بينهما فرق كبير، انا بطبيعة الحال افضل البريم على ما عداه، تلك الثمرة الصفراء المشربة بالحمرة ــ ربما لهذا اعشق بشرة النساء المشربة بالصفرة أو بالحمرة، خصوصا إذا كانت بيضاء ــ وهو يختلف عن الديري بدرجة قسوته، حيث  انه يكون مقرمشا، واكثر ليونة.

ولكن ليس هذا ما يميزه عن غيره من التمور، ان ما يميزه حقا هو تلك المباغتة التي يقتحم بها احاسيس آكله، فما ان تقضمه اول قضمة، حتى تكاد تعافه، إذ يبدو مذاقه كالخشب، كالجُمار غير الناضج، ولكن ما ان تقضم قضمتك الثانية، حتى تفاجأ بتلك الحلاوة اللذيذة، الآسرة، التي تزداد لذة مع كل قضمة، وتتعمق في روحك كلما افرز الفم مزيدا من اللعاب، ليمتزج بالثمرة الممضوغة، المضحية، حتى الألم الذي يسببه فتات الثمرة الخشنة لمن ابتلاه الله بالاسنان الحساسة مثلي، فيضل يتألم، ويتلذذ في الوقت ذاته، وحينما تكون كارها للحلويات كالعبد لله، فأن سحر هذا الثمرة التي تجعلك تعشقها يصيبك بالحيرة، مع كل لحظة مؤلمة تقضيها معها، وانت تعاني، وانت تتلذذ، وانت تندمج في الطعم كأنك ترقص، مترنحا في حلقة صوفية.

وعندما اخبر أمي بنظريتي هذه تقول متبرمة: (لهذا هو أغلى انواع التمور التي في السوق).

ان هذا الالم، وهذا المذاق الخشبي الذي تمنحه لك تمرة البريم اول وهلة لا يشبهه سوى الالم الذي يسببه لك بلد البريم الاصلي، العراق؛ البلد الذي يذيقك كل انواع القهر، ويسبغ عليك اصنافا من الوجع، والوحشة، وضيق النفس، ونفاد الصبر، ثم يفاجئك ــ عادة ــ بضربة حنونة من الفرح، قد تكون عابرة، وغير ملحوظة، كأن تكون ماشيا في درب طفولتك عصراً، وتشم فجأة رائحة التراب المرشوش بالماء لتوه، رائحة لا تصدر إلا عن التراب العراقي فيما يزعم الزاعمون.

أو قد يمنحك احساسا بالتجذر، والانتماء، حينما تكون جالسا بين أخوتك، وتراهم يضحكون لضحكتك، ويجمون لوحشتك. ولكن هذا الشعور بالذات يمكن ان تجده في أي مكان، ولكن ما لن تجده، هو ذلك الالم اللذيذ، الذي تمتد جبلته الغرائبية إلى ما ينبت على ارضه من ثمار، وإلى واحد هو اشهر ما تنتجه هذه الارض منها، التمر، والبريم منه بوجه متفرد. يالهذا الوطن الذي يفسد سوية ذائقتك، ويعطب روحك حينما يجعلك تتلذذ بالالم، وتتألم باللذة.

المشكلة التي تبرحني حسرة في هذه اللحظة، ان المذاق المؤلم، القاسي، الذي يؤلم الاسنان الصحيحة، كما العليلة، الذي يواصل الوطن صبه في ارواح بنيه، وانا من جملتهم، لا يريد ان ينقضي، وأن ينتقل إلى المرحلة الثانية، شيء من الحلاوة، شيء من الامل، ثم نعاود جولة الألم مرة أخرى.

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.